( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين )

من المعلوم أنه مما ابتليت به الرسالة الخاتمة الموجهة إلى الناس كافة، والمنزلة على خاتم  الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله علية وسلم كثرة من يعادونها ويعادون المؤمنين بها من كفار، ومشركين، ومنافقين ،وأهل الكتاب  من يهود ونصارى . ولقد ورد فيها ذكر بتفاصيل لكل هؤلاء مع ذكر أشكال عدائهم لها ، ومع تحذير المؤمنين منهم ، وتحديد كيفية التعامل معهم. ومما يجمع بين هؤلاء جميعا محاربتهم للرسالة الخاتمة، ولصاحبها عليه الصلاة والسلام، ولأتباعه من المؤمنين ، وذلك من أجل القضاء عليهم قبل أن تقوى شوكتهم ، ويصير الأمر إليهم، الشيء الذي فيه تهديد لمصالحهم . ولما قويت شوكة المؤمنين  زمن نزول الوحي ،لم يتوقف عداء من كانوا يعادونهم بل استمر عبر العصور ، وسيستمر إلى قيام الساعة ، لهذا كثر ذكر هؤلاء الأعداء في كتاب الله عز وجل ليكون ذكرهم تنبيها لكل المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان .

ولقد أشار الله تعالى في محكم التنزيل إلى أشد أعداء المؤمنين عداوة لهم من أهل الكتاب، وهم اليهود في قوله عز من قائل : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ))، ففي هذه الآية الكريمة ذكر لأشد أعداء المؤمنين من يهود ومشركين، وهي عداوة يتقاسمونها، ذلك أن اليهود شق عليهم أن تأتي رسالة خاتمة مصدقة لما معهم ومهيمنة عليه، خصوصا وقد أعملوا التحريف والتغيير فيما أنزل إليهم وفق أهوائهم ، فأظهروا ما شاءوا مما أنزل إليهم ، وأخفوا ما شاءوا خصوصا ما كانت تؤكده الرسالة الخاتمة . وأما المشركون فقد رأوا فيما جاء في الرسالة الخاتمة تسفيها لما كانوا عليه من شرك، يسوون فيه بين ألوهية الله تعالى، وبين تأليه ما يعبدون من أوثان وأصنام . ولقد كان الشرك يجمع أيضا بين اليهود وبين مشركي مكة حيث كان اليهود  يزعمون أن عزير ابن الله ـ  تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ ، كما يزعم المشركون أن آلهتهم هي الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وكل ذلك من الشرك .

ولقد قدم الله تعالى اليهود على المشركين في شدة العداوة للمؤمنين بصيغة فيه توكيد للشدة  .ولقد تجلت عداوة اليهود للمؤمنين في تحريضهم للمشركين عليهم، لأن الصراع بينهم وبين المشركين كان في مكة قبل أن ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا إليها من أجل صون بيضة الدعوة الإسلامية التي حوصرت أشد الحصار في مكة . ولما انتقلت الدعوة إلى المدينة شعر اليهود بالخطر على مصالحهم فيها، وكانوا أصحاب تجارة  ومصالح ، فكان ذلك باعثا لهم على شدة العداء للرسول صلى الله علي وسلم ،ولمن معه من المؤمنين . وازداد تلك العداوة شدة لما دخل أهل المدينة أوسا وخزرجا في دين الإسلام ، وكانوا من قبل مشركين ، فحينئذ ضاعت الامتيازات التي كانت لليهود وللشرك في المدينة ، لهذا ربطوا الصلة بمشركي مكة الذين بلغ عداءهم للإسلام حد تهديد الرسول صلى الله عليه وسلم بالتصفية الجسدية ، وهو ما حمله على الهجرة إلى المدينة .  ولم يكتف اليهود بتأييد مشركي مكة في صراعهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ألبوا عليه أهل المدينة، وكان فيها منافقون يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر ،وبذلك تحولت المدينة إلى بؤرة عداوة شديدة للمؤمنين ، وهي عداوة جمعت بين اليهود والمشركين .

ومن مظاهر عداوة اليهود للمؤمنين يومئذ إشعال نيران الحروب، وهم أصحاب خبرة في ذلك كما وصفهم الله تعالى في قوله عز من قائل : (( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين )) ، ففي هذه الآية الكريمة جمع الله تعالى لليهود صفتين قبيحتين ،هما صناعة الحروب ، والسعي بالفساد في الأرض ، وهما صفتان متلازمتان، ذلك أن صُنّاع الحروب يكونون مفسدين في الأرض بالضرورة .  ولقد كره الله تعالى منهم الصفتين معا. ولقد جاء التعبير القرآني عن تورط اليهود في الحروب بتصوير دقيق حيث شبههم بحال من يوقد النار ، وفي هذا التصوير ما يوحي بأنهم كانوا يوقدونها بين غيرهم، تماما كما يوقد النارالحقيقية من له غرض من وراء ذلك . ولقد كانوا يتسببون في الحروب بين أهل المدينة من أوس وخزرج قبل إسلامهم ، وكان الله تعالى يتعقبهم كلما حرضوا عليها بإيقافها، لأنها فساد في الأرض، وإهلاك للحرث والنسل . ولما أنعم الله تعالى على أهل المدينة بنعمة الإسلام عمل اليهود على إذكاء نار الحرب بين المؤمنين وكفار مكة ، واتخذوا إلى ذلك كل السبل الماكرة ، وغايتهم إشاعة الفساد في الأرض ،وكان الله تعالى دائما يتعقب مكرهم ،فيبطله كما قص  علينا ذلك الذكر الحكيم.

ولما كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما وصف به الله تعالى اليهود من تحريض على الحروب  وإشعال لنيرانها، ومن فساد في الأرض، سيبقى ملازما لهم إلى قيام الساعة ، وسيظل دأب الله تعالى إطفاء كل نار للحرب يوقدونها ، ويبطل كل فساد يفسدونه في الأرض في زمان ومكان . ولن يكون من معنى لهذه الآية الكريمة إذا ما تم التعامل معها على أنها  مجرد إخبار عما مضى ، ولن يكون لعالمية الرسالة من معنى أيضا إذا كانت عبارة عن سرد لأخبار مضاوية دون أن يكون لها دور في حياة  من يتعاقبون على الأرض إلى قيام الساعة .

ولا بد هنا من التنبيه إلى ضلال من ينزعون نحو تسويق فكرة  تجاوز الزمن للرسالة الخاتمة بغرض تعطيلها ، وإحلال بدائل محلها مما يبتدعونه وفق أهوائهم.

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما تنطوي عليه طبيعة اليهود من شدة عداوة للمؤمنين تحملهم على الكيد لهم . ومن ذلك الكيد إشعال نيران الحروب التي فيها خطر على المؤمنين على وجه التحديد ، خصوصا ونحن نعيش اليوم إحدى تلك الحروب الضارية التي تجري في أرض الإسراء والمعراج ، وقد أشعلها اليهود الصهاينة من أجل إبادة الفلسطينيين والقضاء عليهم حتى يستأثروا وحدهم  بالإقامة في أرض فلسطين بأمن وسلام لمواصلة  إفسادهم في عموم الأرض ، وقد بلغوا في ذلك شأوا بعيد إذ لا يوجد فساد فيها إلا ولهم فيه يد .

وتتجلى دقة التعبير القرآني اليوم في كون اليهود قد أوقدوا هذه الحرب الدائرة في فلسطين عن طريق استدراج بلاد الغرب الصليبي إليها من أجل خوضها معهم، لأنهم  كعادتهم عبر التاريخ لم يخوضوا حروبا وحدهم ،بل كان يوجد دائما من يخوضها معهم أو يخوضها  نيابة عنهم . ألم يخض الانجليز الذين كانوا يحتلون أرض فلسطين  الحرب معهم ، ولم يخرجوا منها حتى سلموها إليهم؟ وقد أرهبوا أهلها تقتيلا، وأرغم الكثير منهم على اللجوء، ولا زلوا لحد الساعة لاجئين .

وها هم اليهود اليوم يوقدون نار هذه الحرب التي لا تقتصر على أرض فلسطين المحتلة  وحدها، بل يريدون لها أن تمتد  في منطقة الشرق الأوسط برمتها ، وشأنهم في ذلك كما كانوا دائما يوقدونها  في العصر الحديث منذ مدة تزيد عن سبعة عقود مرت على احتلال لأرض فلسطين بالقوة . ولقد نجحوا في استدراج بلاد الغرب الصليبي والعلماني إلى كل الحروب التي أوقدوا نيرانها ، والتي دارت بينهم وبين العرب ، وكان الله تعالى دائما لها بالمرصاد يطفئها كما وعد بذلك في الذكر الحكيم .وآخر ما أراد اليهود به تسعير الحرب في المنطقة اغتيال قيادات فلسطينية ليكون ذلك شرارة  من شأنها أن توسع مجال الحرب في المنطقة تكون أطرافها جهات أجنبية تصرح  علانية بالمشاركة فيها إلى جانب اليهود بذريعة حمايتهم ، وهي تلوح بأسلحة الدمار الشامل في حال تعرضهم للخطر . وبوجود هذا الدعم  الغربي اللامحدود لليهود ،ازداد هؤلاء طغيانا وفسادا في الأرض، وقد ضربوا عرض الحائط كل القوانين والأعراف الدولية ، وداسوا عليه ، وعلى العدالة الدولية التي قضت بلا شرعية وجودهم فوق أرض احتلوها بالقوة . وإنهم ليرتكبون أبشع وأفظع جرائم الإبادة الجماعية في هذا العصر جل ضحاياها من الأطفال والنساء والشيوخ ، والعالم الغربي يتفرج على ذلك ، ولا يحرك ساكنا ، ويحمي المعتدين بالفيتو الذي يقف في وجه قرار إنهاء هذه المجازر الرهيبة التي يتحمل مسؤوليتها الغرب الصليبي العلماني الذي لا تقل عداوته للإسلام والمسلمين عن عداوة اليهود لهم .

و لهذا يتعين على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يستيقنوا بما أخبرهم به الله تعالى عن شدة عداوة اليهود والمشركين لهم ، والغرب الصليبي بتصريحه اعتماد العلمانية قد أصبح ضمن دائرة الشرك ، وأن الله تعالى يتعقب مكر اليهود والمشركين بمكره العظيم إلى قيام الساعة .

اللهم عجل بقدرك الذي لا يرد ،واطفإ اللهم نارهذه الحرب المستعرة التي تهلك عبادك المؤمنين الموحدين الذين يجاهدون في سبيلك ، ومن أجل  فك أسرمسجدك الأقصى الذي باركته ، وكن اللهم لهم معينا وظهيرا ، وعليك اللهم بمن ظلموهم من يهود ومشركين ومنافقين ،إنك عليهم قادر، وفوقهم قاهر ، وإن بأسك لشديد، وإنك قد وعدت عبادك المؤمنين بالنصر على أعدائك يا رب العالمين . اللهم اربط على قلوب المجاهدين في سبيلك ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك العظيم ، واحفظهم اللهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل اللهم لأعدائهم عليهم سبيلا.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1089