( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء)
حديث الجمعة :
من المعلوم أن حكمة الله تعالى من خلق الإنسان هي ابتلاؤه في الحياة الدنيا، الابتلاء الذي بموجبه يتحدد مصيره في الآخرة ،والذي يكون إما سعادة أبدية ، وإما شقاوة أبديا إلا ما شاء الله تعالى .
ولما كان سعي الناس في الحياة الدنيا لا يخرج عن أحد أمرين ، إما إيمان بالخالق سبحانه وتعالى وطاعته فيما أمر وما نهى ، وإما كفر به وخروج عن طاعته، فإن ظروف الحياة قد تقتضي أن يعيش المؤمنون والكافرون جنبا إلى جنب في حيز واحد أو مجاور ، ويكون الوضع بينهم حينئذ إما تدافع وصراع ، وإما تعايش تفرضه المصالح المشتركة بينهم .
ولقد حصل في بداية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان المؤمنون قلة مستضعفة تعيش بين كثرة كاثرة طاغية من الكافرين لم تقبل دعوته ، فضيقت عليه الخناق أشد ضيق حتى اضطر للهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، بحثا عن بيئة جديدة تحتضن دعوته كي تنطلق منها إلى أصقاع أخرى من المعمور وفق إرادة الله عز وجل .
ولقد كان الكفار صنفين، صنف بيّن كفرهم، يبدونه ويصرحون به ، وصنف يخفونه ، ويموهون عليه، وهم المنافقون . وكان هذا الصنف هو الذي يشكل خطورة على دعوة الإسلام ، وعلى المؤمنين أكثر من الصنف الأول .
ولما وقعت غزوة بدر الكبرى التي أظهر فيها الله تعالى دينه على ملة الكفر، كان المنافقون حينئذ يساكنون المؤمنين في المدينة المنورة ، كما أهل الكتاب اليهود يساكنونهم فيها أيضا، وكان هؤلاء يكيدون لدعوة الإسلام كل كيد ،وقد فضح كتاب الله تعالى ما كانوا عليه من انحراف عن شريعة نبي الله موسى عليه السلام ، فأضمروا كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين . وكان هذا الكيد يجمع بينهم وبين كفار قريش ، وبين المنافقين حيث كانوا جميعا يريدون استئصال شأفة الإسلام كي يظل الأمر على ما كان عليه قبل ظهور ادعوته .
ولقد كان اليهود أوضح من المنافقين في إضمار العداء للإسلام ، ولم يكن أمرهم خافيا على رسول ا لله صلى الله عليه وسلم ، ولا على المؤمنين كما كان أمر المنافقين الذين كانوا يظهرون إسلامهم ، ويبطنون كفرهم وشركهم . و لهذا كان المؤمنون في حاجة لمعرفة الخطورة الآتية من قبل المنافقين صيانة لدين الإسلام الذي أراده الله تعالى دينا للعالمين ، وخصه برسالة عالمية ختم بها الرسالات السابقة الداعية إلى توحيده وعباده .
ولقد اضطر المنافقون بعد غزوة بدر الكبرى إلى أسلوب التقية وهم يخالطون المؤمنين ، ويزعمون لهم أنهم معهم على ملة الإسلام ، بينما يتواصلون في الخفاء مع الكفار هم واليهود ، ويعلنون لهم كفرهم ، وتأييدهم في صراعهم مع المؤمنين.
ولما هزم المؤمنون في غزوة أحد بدا من المنافقين ما كانوا يخفونه عن المؤمنين بعد غزوة بدر الكبرى ، وكان ذلك كشفا من الله تعالى لما كانوا يضمرونه ، وقد أراد أن يميز بينهم وبين المؤمنين تنبيها لهؤلاء كي يحذروهم هم واليهود على حد سواء ، فسجل الوحي ذلك حيث قال الله تعالى :
(( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم )) ، ففي هذه الآية الكريمة التاسعة والسبعين بعد المئة من سورة آل عمران ، بيّن الله تعالى ما كان عليه وضع المؤمنين يومئذ وهم يخالطون المنافقين واليهود ، ولا يعلمون ما كان هؤلاء يكيدون لهم ، وهم على صلة بالكافرين في مكة . ولقد جعلت هزيمة المؤمنين في غزوة أحد المنافقين يعاودهم حلمهم باستئصال الكافرين شأفة الإسلام ، وكان ذلك الحلم حلم اليهود أيضا ، لكن الله تعالى ماز بين المؤمنين والمنافقين في هذا الظرف بالذات نصرا ودعما لدينه إذ تأكد للمؤمنين ما كان المنافقون واليهود يضمرونه لهم من شر مما كشف الله تعالى عنه ساعة هزيمتهم .
ومن حكمة الله تعالى، بل من رحمته بعباده المؤمنين أن جعل في ابتلاءهم بالشدة خيرا لهم . ومن ذلك الخير تلك الهزيمة في غزوة أحد التي فرح بها المنافقون، وكان ذلك كشفا أو فضحا من الله تعالى لنفاقهم ، كما كان ذلك تمييزا منه سبحانه وتعالى بين المؤمنين والمنافقين بعد طول اختلاط بينهم، وهم غافلون أو لا يعلمون من أمر نفاقهم شيئا .
ومعلوم أن المؤمن قد يضيق ذرعا بالشدة أو المصيبة حين تصيبه، لكنه بعد حين يحمد الله تعالى عليها، لأنها كانت سببا في معرفته بما كان خافيا عليه ، وقد عبر عن ذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بقوله :
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها حمدا ولكن عرفت بها عدوي من صديقي
ولقد عرف المؤمنون من كانوا يعاشرونهم من المنافقين على حقيقتهم بعد هزيمتهم في غزوة أحد ، فتميزوا حينئذ عنهم ، ولم يكونوا كذلك قبل الهزيمة.
ومما يثير الانتباه في قول الله تعالى الوصف الذي خص به عباده المؤمنين والوصف الذي خص به المنافقين إذ قال : (( حتى يميز الخبيث من الطيب )) ، فكنى عن النفاق بالخبيث ، وكنى عن الإيمان بالطيب ، وهما صفتان لا يمكن اجتماعهما في المجتمع المسلم ، وإنما كان اجتماعهما لفترة معلومة حتى ابتلى الله المؤمنين بهزيمة في أحد، فماز بينهم وبين المنافقين كي تصفو جماعتهم من أهل النفاق الذين كانوا يخفون كفرهم عن المؤمنين وهم يخالطونهم ، وكانوا بمثابة ما يسمى في عصرنا الطابور الخامس ، وهو عبارة عن فئة تكون مدسوسة داخل مجتمع ما ومحسوبة عليه ، ولكنها يكون ولاؤها لأعدائه الذين يستغلونها للإيقاع بأهله ، وإن شئنا قلنا إن أصحابها بمثابة جواسيس أو أجهزة مخابرات بلغة العصر أو خونة .
ولم يكن الكشف عن المنافقين عقب هزيمة أحد وحيا أوحاه الله تعالى للمؤمنين كما يوحيه لمن يصطفيهم من رسله الكرام صلواته وسلامه عليه أجمعين، بل أجرى سبحانه الأمور وفق مشيئته وأقداره التي يسير عليها قانون أو نظام كونه من أسباب ومسببات ، و من مقدمات ونتائج ، إذ جعل نفاق المنافقين ينكشف للمؤمنين من خلال فرحهم حين انهزموا في أحد ، علما بأن الوحي إنما خص به سبحانه وتعالى رسله الكرام ، وأمرهم بالكشف عن بعضه للناس لحكمة يريدها جل شأنه ، لهذا عقّب بقوله عقب الكشف عن ميزه بين المنافقين والمؤمنين : (( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله )) ،أي يختار من رسله من يخصهم بكشف غيبه للناس .
ولا بد من الإشارة إلى أن تمييز الله عز وجل بين المنافقين والمؤمنين فيه تقريع للمنافقين، وقد كانوا يظنون أن أمر نفاقهم لن ينكشف أبدا . ولو كان المنافقون يعقلون، لاتنبهوا إلى أنهم في ضلال، وهم على نفاقهم لما كشف الله تعالى أمرهم من خلال فرحهم بهزيمة المؤمنين ،وقد أظهرها لهؤلاء ، ولم تكن وحيا أوحي به إليهم ، كما كان يوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم . ولقد رغب الله تعالى المنافقين في الإيمان بعد ذلك فقال : (( فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم )) ، وكان في هذا الأمر ترغيبا لهم من جهة ، ومن جهة أخرى كان فيه تثبيتا للمؤمنين ،وقد كانوا يومئذ يعيشون تحت وطأة الهزيمة ،فكشف لهم أمر المنافقين ليشعرهم بأن عنايته بهم لم ولن تنقطع أبدا مهما كانت الظروف . ولقد أغرى الجميع هؤلاء وهؤلاء بالأجر العظيم مقابل إيمانهم وتقواهم .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم لا بخصوص أسباب نزوله لأن القصد من وراء ذكر الأسباب هو تعميم الأحكام المترتبة عنها ، فإنه لن يخلو عصر من العصور ولا مصر من الأمصار إلى قيام الساعة من مخالطة المؤمنين للمنافقين الذين يضمرون لهم الشر .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تنبيه المؤمنين إلى ما قد يواجهونه من شدائد في حياتهم فيغفلون عن رحمة الله عز وجل التي تكون في طيها ،فضلا عن تحذيرهم من الوقوع في آفة النفاق بما قد يسوء إخوانهم المؤمنين أو يقبلون على فعل ما قد يخدم أعداءهم، خصوصا ونحن نعيش محنة إخواننا المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج وقد تجاوزت حرب الصهاينة الشرسة عليهم شهرها العاشرة دون أن تبدو بوادر نهايتها في الأفق .
ومن مظاهر النفاق التي يجب أن يحذر المؤمنون الوقوع فيها ، وفيهم الغافلون عنها ، كما أن فيهم من يعلمونها أن يقبلوا على سلع ومأكولات ومشروبات ...العدو الصهيوني أو سلع ومأكولات ومشروبات من يوالونه وهي التي تذر عليه المال الوفير الذي يوظفه في إبادة المؤمنين في قطاع غزة والضفة الغربية . وإن من بلغه من المؤمنين أو علم بما يدره اقتناء سلع الصهاينة وأعوانهم من أموال عليهم ، ولم يقاطعها ،فإنه يوشك أن يقع في النفاق والعياذ بالله ، لهذا فالواجب الشرعي يدعو إلى تحري المؤمنين ما يقتنون من سلع ، وما يأكلون وما يشربون مما يوجد في أسواقهم، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان لضرورة ملحة لا مناص منها والتي قد تكون صائنة للأرواح ودافعة للأوبئة والأمراض، وتكون مما يقره فقهاء وعلماء الأمة . ولقد أفتى مؤخرا بعضهم بمقاطعة ما ينتجه الصهاينة من مأكولات لأنهأ في حكم المغصوب المحرم باعتبار الأرض التي تنتجه مغتصبة من أهلها ، و لهذا هي في حكم المسروقة .
ولمن أراد من المؤمنين أن يبرىء ذمته أمام الله عز وجل من شبهات النفاق في زماننا هذا ، وفي ظرفنا هذا بالذات ، فعليه أن يطلع ويسأل عما يجب تجنبه مما يعود على المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج بالضرر، بينما يعود على أعدائهم الصهاينة وأعوانهم بالنفع .
اللهم إنا نعوذ بك من كل ما يوقع في النفاق ما علمنا منه، وما لم نعلم ، واصرفنا عنه رحمة منك .
اللهم عجل لإخواننا في فلسطين بفرج قريب غير بعيد ، واكتب لهم نصرا مبينا تعز به دينك ، وترفع به رايته في العالمين . اللهم عليك بأعدائهم الصهاينة الظالمين ،ومن يوالونهم من كفار ومنافقين أنت أعلم بمن خفي منهم . اللهم أرنا وأر إخواننا المستضعفين فيهم عجائب قوتك ، فإنهم لا يعجزونك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1094