( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل قد ضمَّن رسالته الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أخبارا عن الأمم السابقة المؤمنة صالحة منها ، والكافرة أو المشركة طالحة لتكون عبرة للعالمين إلى يوم الدين حيث يجب الاعتبار ، أو تكون قدوة وإسوة حيث يجب الاقتداء والتأسي .
ومعلوم أيضا أن بعض تلك الأمم أبادها الله تعالى وقطع دابرها بسبب كفرها وطغيانها في الأرض ، وبذلك تمحضت أخبارها في الرسالة الخاتمة لغرض الاعتبار ، بينما ذكرت أخبار أمم أخرى قدر الله تعالى لها الاستمرار خلفا عن سلف لأغراض أهمها تحذير المؤمنين إلى قيام الساعة من كيدها ومكرها كما هو شأن أو حال أهل الكتاب من اليهود .
ولقد تضمنت سورة البقرة أخبارا عن اليهود في سبع وسبعين آية متتالية أو متسلسلة من الآية التاسعة والثلاثين إلى الآية الرابعة بعد المائة ، ومن الآية الثامنة بعد المائة إلى الآية السادسة والأربعين بعد المائة حيث ترد بعض الآيات متسلسلة ، بينما يغيب التسلسل في أخرى ، وهي ذوات الأرقام الآتية :
( 108 / 110 / 112 / 115 / 117 / 119 / 120 / 121 / 122 / 134 / 139 / 146 ) .
وفيما يلي ملخص أخبار وأحوال اليهود الواردة في هذه الآيات الكريمة من سورة البقرة وهي كالآتي :
ـ تذكير الله تعالى اليهود بنعمه عليهم ، وأمره لهم بالوفاء بعهدهم معه / ـ أمره تعالى لهم بالإيمان بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم /
ـ نهيه تعالى عن لبسهم الحق بالباطل / ـ أمره تعالى بإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة / ـ إنكاره تعالى أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم / ـ أمره تعالى باستعانتهم بالصبر والصلاة / ـ تذكيره تعالى لهم بنعمه عليهم وتفضيلهم على العالمين / ـ أمرهم بالتقوى وتحذيرهم من يوم القيامة / ـ تذكيرهم بنعمة إنجائهم من آل فرعون وإغراق هؤلاء / ـ إنكاره تعالى اتخاذهم العجل إلها بعد نجاتهم من آل فرعون ثم عفوه عليهم بعد ذلك / ـ تذكيرهم بما أنزل على نبيه موسى عليه السلام لهدايتهم / ـ إنكاره تعالى طلبهم رؤيته جهرة ومعاقبتهم بالصاعقة ثم بعثهم بعد موتهم / ـ تذكيرهم بما أنعم به عليهم من غمام ومن مَنّ وسلوى / ـ أمره تعالى لهم بدخول قرية عينها لهم وهي حبرون بأرض كنعان والأكل من طيب ثمرها والتمتع بخيراتها / ـ إنكاره تعالى تبديلهم ما قيل لهم / ـ ذكره تعالى قصة استسقاء موسى عليه السلام لقومه / ـ ذكره تعالى عدم صبرهم على ما خصهم به من طيب الطعام ، وطلبهم ما دونه قيمة / ـ ذكره تعالى رفع الطور فوقهم وإنكار توليهم بعد ذلك / ـ إنكاره تعالى اعتداءهم في السبت ومسخهم قردة خاسئين تنكيلا بهم / ـ ذكره تعالى قصة البقرة والحوار الذي دار بينهم وبين نبي الله موسى عليه السلام في شأنها، و في شأن قتيلهم / ـ إنكاره تعالى قسوة قلوبهم بعد ذلك / ـ إخباره تعالى بعدم إيمانهم بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وبتحريف فريق منهم كلامه / ـ تحذيره تعالى من خداع المؤمنين بإظهار الإيمان لهم مع إبطان الكفر والتصريح به إذا خلوا إلى بعضهم البعض / ـ تحذيره تعالى الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ،وينسبونه له كذبا وزورا ليشتروا به ثمنا قليلا / ـ تسفيهه تعالى زعمَهم أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة / ـ تذكيره تعالى بما بنقضهم ميثاقهم معه / ـ إنكاره تعالى قتلهم أنفسهم / ـ إخباره تعالى بشرائهم الحياة الدنيا بالآخرة / ـ إنكاره تعالى تكذيبهم الأنبياء وقتلهم علوا واستكبارا / ـ إخباره تعالى بكفرهم بالرسالة الخاتمة المصدقة لما أنزل على نبي الله موسى عليه السلام ، وإصرارهم على ذلك ثم غضبه عليهم بسبب ذلك / ـ إنكاره مرة أخرى اتخاذهم العجل الذي أشربوه في قلوبهم / ـ تذكريهم بآية رفع الطور فوقهم / تكذيبه تعالى ادعاءَهم الظفر بنعيم الحياة الآخرة ، مع أنهم يخشون الموت ،ولا يتمنونه تشبثا بالحياة الدنيا وحرصا عليها ، وذلك لخوفهم من مصير الآخرة بسبب سوء أفعالهم / ـ إنكاره تعالى نبذهم أو نقضهم العهود / ـ إنكاره تعالى نبذهم القرآن الكريم المصدق للتوراة المنزلة على موسى عليه السلام / ـ إنكاره تعالى اتباعهم الشياطين وممارستهم السحر / ـ إنكاره تعالى حسدهم للمؤمنين على ما خصهم به من خير ، واصرارهم على ردهم كفارا بعد إيمانهم / ـ إخبارهم تعالى بخلافهم مع النصارى وتشكيك بعضهم البعض في دينهم / ـ إنكاره نسبة الولد له تعالى عن ذلك علوا كبيرا / ـ كشفه تعالى عن عدم رضاهم على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتبع ملتهم / ـ إشادته تعالى بمن آتاهم الكتاب وهم يتلونه حق تلاوته إيمانا به / ـ تذكيرهم مرة أخرى بنعمه عليهم وتفضيلهم / ـ تحذيرهم من سوء العاقبة في الآخرة / ـ تسفيهه تعالى نسبة الهداية إلى اليهودية والنصرانية ،وحصرها في حنيفية إبراهيم الخليل / ـ دحضه تعالى نسبة خليله إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية / ـ إنكاره تعالى مرة أخرى كتمان فريق منهم الحق مع العلم به .
وباستثناء قول الله عز وجل في الآية 120 : (( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به )) ، وهؤلاء لم يبدلوا التوراة ، ولم يحرفوها ، وهم يقرون بأن الله تعالى أمرهم بالإيمان بنبوة ورسالة سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، وباستثناء تعداد ما أنعم به الله تعالى عليهم من نعم بعضها كان معجزات ، فإن كل الآيات الأخرى تضمنت سردا ووصفا لأفعال وصفات لليهود المحرفة التي لا يرضاها الله تعالى بدءا بتحريفهم التوراة ، وافترائهم الكذب عليه سبحانه وتعالى ، و مرورا بنسبتهم الولد له تعالى عما يصفون علوا كبيرا ، وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكفرهم بما أنزل عليه بالرغم مما فيه من تصديق للتوارة ، ومكرهم الخبيث به عليه السلام ، واتخاذهم عجل السامري إلها ... إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة ،وانتهاء بادعائهم دخول الجنة .
هذا باختصار شديد ودون تفاصيل أهم ما أخبر به الله تعالى عن بني إسرائيل في سورة البقرة .
ولما جعل الله تعالى لسلف اليهود خلفا ، فإن بعض هذا الخلف سارعلى نهج سلفه، وحذا حذوهم في التكذيب بالرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع أنها مصدقة لما أنزل على نبي الله موسى عليه السلام ، و هذا ما يحملهم على إضمار العداوة للمؤمنين حسدا من عند أنفسهم مع علمهم ويقينهم بصدق الرسالة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وما ذكر الله أخبارهم لمجرد العبرة كما هو الشأن بالنسبة للأمم البائدة التي قطع دابرها، والتي لم يجعل لها خلفا ،بل لتحذير المؤمنين من كيد اليهود إلى قيام الساعة .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما قصه الله تعالى في سورة البقرة على رسوله صلى الله عليه وسلم من أحوال اليهود الذين عايشوه في المدينة المنورة ، وهم يمكرون به كل مكر، ليست مجرد أحوال مضت وانتهت بزوال من عايشوه من اليهود ، بل هي أحوال وأفعال ستتكرر إلى قيام الساعة ، ويرثها خلف عن سلف ،وكلها تتعلق بفكرة نقض عهد الله عز و جل ، كما ورد ذلك الآية التاسعة والتسعين : (( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )) ،وما ذلكم النبذ أوالنقض سوى ترك العمل بما أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى عليه السلام الذي بشر بنبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا سميت التوراة عهدا ،لأن اليهود عاهدوا الله على العمل بها ، لكنهم نقضوا أهم ما أوجبه سبحانه وتعالى عليهم وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتباع ما أنزل عليه .
ولقد أخبر الله تعالى أن اليهود لن يؤمنوا برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لإصرارهم على تكذيبه ، وطمس معالم كل ما يدل على نبوته ورسالته في توراتهم كما جاء في الآية الرابعة والسبعين : (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )). مناسبة حديث هذه الجمعة هي تنبيه المؤمنين إلى طبع نقض العهد الذي تطبع به اليهود خلفا عن سلف، خصوصا ونحن نتابع اليوم هذا الطبع فيهم وهم يعاهدون المؤمنين في قطاع غزة على أمور لتسوية قضية مبادلة رهائنهم بسجناء منهم ثم ينقضون عهدهم ، ولا ينجزون الصفقة على الوجه الذي التزموا به مع الوسطاء .
وهذا الذي يحدث اليوم بعد مرور خمسة عشر قرنا على نزول القرآن الكريم الذي أخبر بطبع نقض اليهود عهودهم ، يطفىء كل بصيص أمل في تخليهم عن هذا الطبع السيء الذي يفقدهم المصداقية عند الخالق سبحانه وتعالى وعند الخلق.
وأخيرا نشير إلى أن الآيات السبع والسبعين الواردة في سورة البقرة ،والتي لا يمكن القفز عليها، أو تجاهلها أو إهمالها ، إنما أنزلت لتتلى ، ولتتدبر ، لما فيها من تحذير واضح للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة من طبع نقض اليهود لعهودهم ، وهو نقض منبثق أو متفرع عن نقضهم عهد الله عز وجل ،وميثاقه الذي واثقهم به ، وما ذلكم العهد والميثاق سوى التوراة المنزلة على نبي الله موسى عليه السلام التي طالها تحريفهم من أجل طمس كل أثر فيه إشارة إلى العهد الذي أمرهم الله تعالى بصيانته ،وهو التصديق بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتباع شريعته.
ولا يزعمنّ أو يدّعينّ أحد أن هذه الآيات السبع والسبعين من سورة البقرة فيها معاداة للسامية أو فيها دعوة لكراهية اليهود افتراء على كتاب الله عز وجل ، وسوء أدب مع كلامه سبحانه وتعالى بوصفه بما لا يليق به ،وهو الوحي المنزه والمقدس الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه.
اللهم إنا نسألك الاهتداء بهدي القرآن الكريم ، وبهدي سنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام ، اللهم لا تخالف بنا عن نهجهما ، وثبتنا على الوفاء بعهدك حتى نلقاك ، ونحن على ذلك لا مبدلين ولا مغيرين، ولا فاتنين ولا مفتونين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1115