أثر الإسلام في الإنسان
شريف قاسم
( إن الدين عند الله الإسلام ) فلايقبل الله لعباده سِواه في حياتهم الدنيوية ، ولن يدخل جنَّة الخلد إنس ولا جان لايدين بهذا الإٍسلام ، ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) ، والآخرة هي دار المستقر الأخير في جنة أو نار ، فمن لم يمت على دين الإسلام فقد خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ، والويل والثبور لمن كان في الآخرة تحت عنوان : ( وهو في الآخرة من الخاسرين ) . لأن الدنيا والآخرة ملك الله ، والإسلام هو منهج الفوز بالسعادة الأبدية لمَن بوَّأهم الله هذا الملك ، قال تعالى : ( لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) 5/ الحديد .
والإسلام بقرآنه العظيم ، وسُنَّة نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم ، هو المنقذ من الضلال ، والسِّفر الأعظم الهادي إلى الطريق الأقوم ، ومن أجل ذلك بذل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كل مايملكون من غال ونفيس لنصرة دينهم ، ونشره بين الأمم ، وما غرَّهم مالٌ زائل ولا جاه غير دائم ولا امتدت عيون بصائرهم إلى زخرف في هذه الحياة الدنيا . وبهذه القيم العالية منحهم الإسلام الروح المتألقة بالإخلاص والوفاء لله ، فعاش الواحد منهم قرآنا يمشي بين الخلق ، فيشعر مَن يراه بالأمن والإخاء . ويبقى هذا الشعور المتبادل متجددًا ، تفيض به الحياة خيرا ومودة وتراحما ، إن تكلم المسلم فبما يرضي الله من الكلم الطيب ، ولا يجري على لسانه السوءُ من القول ، وإن تعامل مع الناس فلا يمكن أن يغمطهم حقوقهم ، أو أن يعتدي فيظلمهم ، رغم مخالطته الدائمة لهم ، بل إنه يصبر على أذاهم ، ويتجاوز عن أخطائهم ، طلبا لرضوان الله ، وعملا بهَدْيِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم . ولا ينأى عن مواطن المشاركات الاجتماعية لأنه ــ وكما علمه الإسلام ــ عضو فاعل في مسارات الخير والإعمار ، وكأنه الشجرة الندية لاتبخل بظلالها ولا بثمرها على المجتمع ، ولقد شهد لهذه السيرة التي يتحلى بها المسلم أعداءُ الإسلام ، فالمسلم يبقى أثره الطيب إن حلَّ وإن رحل ، ويبقى مشرق الوجه متفائلا مهما ادلهمت الرزايا ومهما تعاظمت الأحداث ، يقدِّم للناس رأيه السديد ، ومشورته الصادقة ، وتجربته التي تكتنفها فرائد الفوائد ، لأنه يعيش ضمير الأمة وقلبها الذي ينبض بأسباب الفضائل والمكرمات ، ويصدق في هذا المسلم قول القائل :
وأسعد الناس ما بين الورى رجل ... تُقضى على يـده للناس حاجاتُ
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ
وقيم الإسلام تحيي المسلم حياة طيبة تختلف عن حياة الإنسان الذي لايدين بالإسلام ، وتختلف علاقته بالله سبحانه اختلافا كليا عن طبيعة غير المسلم الذي يدين للمادة والهوى ، فهو يعلم أن هذه الحياة الدنيا فانية ، وليس لها من قيمة لولا أنها كالراحلة التي يمتطيها للوصول إلى نهاية الطريق ، فإنَّ همَّه الآخرة التي هي الخلود الأبدي بكل مافي الخلود من فضل وإكرام من الله لعباده الفائزين بهذا الخلود ، وهو يعلم أيضا علم اليقين بأن الله خلقه ليعبده وليقربه من رضوانه ، بل إن الله عزَّ وجلَّ ليفرح للعبد الذي يؤوب إليه صادقا مخلصا ، ولقد صوَّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرحة في أجمل المعاني فعن عبد الله بن مسعود رضي الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( للهُ أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن ، من رجل في أرض دَويّة مهلكة ، معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فنام فاستيقظ وقد ذهبت ، فطلبها حتى أدركه العطش ، ثم قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه ، فاللهُ أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) رواه مسلم . ولنتصور ــ نحن ــ شدة قلق ذلك الرجل عندما فقد راحلته وأيقن بالهلاك ، فكأني به هام شرقا ، وسعى غربا ، ونظر شمالا وجنوبا ، لعله يرى راحلته ، فغلبه النصب وصرعه النوم فاستسلم له ، حتى إذا استيقظ فإذا براحلته تقف عند رأسه ، فقال من شدة الفرح : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم . وهنا تتجلى رحمة الله بعباده المؤمنين وهو الغفور الرحيم ، ولو دقَّقنا في بعض الأحاديث النبوية الكثيرة الواردة في هذا المجال لرأينا العجب العجاب من رحمة الله الكريم الوهاب ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بينما رجل يمشي بطريق ، وجد غصن شوك ، فأخذه ، فشكر الله له فغفر له ) رواه البخاري ومسلم . وتكثر الآثار النبوية في جود الله ورحمته ، ففي الحديث الشريف : ( لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق ، كانت تؤذى الناس ) . فهنيئا للمسلم وهو يتنعم في جنان الخلد حيث تقبَّل الله منه أعماله ولو كانت هيِّنة ، تلك هي الصورة الأولى للمسلم الموفق للعمل بما يرضي الله ، ومن حولها صور مضيئة في حياة المسلم ، يجد لها المكانة العالية عند الله ، وَلْنَبقَ مع هَدْيِ النبوة في هذا الميدان الكريم ، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه ، فقيل له : هل عملت من خير ؟ ، قال : ما أعلم ، قيل له : انظر ، فقال : ما أعلم شيئا ، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم ، فأنظر الموسر ، وأتجاوز عن المعسر ، فأدخله الله الجنة ) رواه البخاري ، إنها دعوة لحياة اجتماعية فاضلة يريها الإسلام للمجتمعات كي تسود المودة بين الناس ، ويعم معنى الإخاء الحقيقي بينهم ، وقد جاء في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ، لعل الله أن يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه ) رواه البخاري . إن مسامحة الناس وإسقاط الدَّين عنهم يبعث في صدورهم روح الوئام ، وتبقى هذه الصور مشرقة لاينساها التارخ ، ولا ينأى عنها المسلمون فهي من حبال النجاة والفوز ، وفي الجانب الآخر الصور الأخرى لأهل الضلال والفساد ، وأهل الظلم والطغيان والاستكبار ، ومآلهم المذموم في دركات الجحيم يوم القيامة ، فهذا فاسق فاجر همُّه من الدنيا الملذات المحرمة ، والكبائر المهلكة ، وذاك حاكم طاغ مستكبر لايحكم بما أنزل الله ، وآخر يجر أذياله بطرا وكِبرا ... فهؤلاء وأمثالهم لهم المهانة والذلة والخلود في النار ، يقول رسوا الله صلى الله عليه وسلم : ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجناً في جهنم ، فتعلوهم النار ، ويسقون من طينة الخبال ) رواه الترمذي ، وطينة الخبال هي عصارة أهل النار .
فالنأي عن منهج الإسلام للفرد مدعاة للضياع والخسران ، وهو انتكاسة مريرة للأمة إذا ما غفلت أو أدبرت عن العمل بأوامر الله سبحانه وإرشادات نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وقيام المجتمع الصالح لايكون إلا بهذا المنهج الذي يؤاخي الناس ، ويوحد صفوفهم ، ويقوِّي عزائمهم ، ويمنحهم سُمو الإيثار ، وعُلو المقاصد ، وأولئك هم المعنيون بقوله تعالى : ( أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون). فراية الهدى التي ترفرف فوق رؤوس المؤمنين المفلحين ، تتسامى تحتها نفوسهم ، وتزكو أعمالهم ، وتفوح سِيرُهم العطرة بالمكرمات ، وما العبادات العملية المتنوعة ، وما ذكر الله آناء الليل وأطراف النهار ، وما الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ... وبقية الواجبات التي أكرم الله بها أبناء الأمة أولئك هم أهل الفلاح والرضوان ، يقول الله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا). والأعمال الصالحات هي سِمة المجتمع الإسلامي فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبذل أسباب التعاطف و المودة والأخوَّة : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ، واجتناب أسباب الكره والبغضاء من الغيبة والنميمة والحسد ، وحرمان الناس من حقوقهم المشروعة كالزكاة والصدقات ، لأن هذه الصفات لأهل السوء الذين يُنادون يوم القيامة إلى مصيرهم الأليم : ( خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين)، فالمسلم الذي لايشعر بألم أخيه المسلم وحاجته ليس له أن يكون في صف أهل الفلاح : ( ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع ) .
تلك ومضات نسأل الله تبارك وتعالى أن لا يفتقدها المجتمع الإسلامي ، ولا ينأى عن خيراتها ومآثرها أبناء هذه الأمة ، ففيها السمو الذي ارتقت من خلاله حضارتنا الإسلامية ، والعظمة التي توشح بها تاريخ أمتنا المجيد ، فهذه السِّمات عوامل مؤثِّرة في إيجاد أسباب الأمن والفتح والسؤدد ، حيث تُترجم إلى واقع عملي يومي في مجتمع إسلامي استنارت قلوب أبنائه بنور الإسلام ، واستقامت سيرة هؤلاء الأبناء على منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبذلك تخطَّت الأمة كلَّ أسباب التأخر والانحطاط والخسران .