الحاكم في قفص الاتهام
رياح التغيير
(7)
د. نعيم محمد عبد الغني
الحاكم العادل النزيه لا يخاف أن يوضع في قفص الاتهام؛ فليس عنده ما يخاف أن يخفيه، ولا يعاتب أو يعاقب من وضعه في موضع المساءلة أو المحاكمة، لأنه يعرف أنه مسؤول عن أفعاله من رعيته التي كلفته حمل الأمانة.
لقد سئل عمر بن الخطاب عن ثوبه الطويل من أين أطال ثوبه، وكان ذلك على الملأ ووسط الناس، ولم يخجل أن يقول إن ولده أعطاه من نصيبه ليكمل ثوبه، ولم يعاتب سلمان الفارسي الذي سأله أو يعاقبه.
وإذا كان عمر –رضي الله عنه- كذلك فإنه سيطبق المنهج نفسه على عماله الذين اختارهم بعناية، وتابعهم بدقة، واهتم بما يرفع عنهم من شكاوى فيحقق فيها، ثم يعطي لكل ذي حق حقه.
لقد استعمل سيدنا عمر سعيد بن عامر على حمص، فما مؤهلاته لهذا المنصب؟
أولا: إن سعيد بن عامر كان رجلا زاهدا، يعطي الفقراء وينسى نفسه، وقد ورد ذلك في كتب التراجم، حيث كان يوزع عطاءه على الفقراء والمساكين، والحاكم عندما يكون راعيا، فكأنه كون ساقيا يسقي الماء، وساقي القوم آخرهم، فهو لا يأكل إلا إذا شبعت رعيته، وهذه صفة مطلوبة لمن يتولى الحكم عموما والشام خصوصا، يقول خالد محمد خالد عن طريقة اختيار عمر لسعيد بن عامر: "والشام يومئذ حاضرة كبيرة، والحياة فيها قبل دخول الاسلام بقرون، تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز مهم للتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا، ولهذا درء إغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر إلا قديس تفر كل شياطين الإغراء أمام عزوفه.. وإلا زاهد، عابد، قانت، أواب..
وصاح عمر: قد وجدته، إليّ بسعيد بن عامر"
ثانيا: إن سعيد بن عامر لا يحب السلطة، فلقد دعاه عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا، فقال لا تفتني يا أمير المؤمنين، قال والله لا أدعك، قلدتموها في عنقي وتتركونني؟ فقال عمر: ألا نفرض لك رزقا؟ قال قد جعل الله في عطائي ما يكفيني دونه أو فضلا على ما أريد، قال وكان إذا خرج عطاؤه ابتاع لأهله قوتهم وتصدق ببقيته فتقول له امرأته أين فضل عطائك فيقول قد أقرضته فأتاه ناس فقالوا إن لأهلك عليك حقا وإن لأصهارك عليك حقا فقال ما أنا بمستأثر عليهم ولا بملتمس رضا أحد من الناس لطلب الحور العين، انظر حلية الأولياء (1/247)
ثالثا: يتميز سعيد بن عامر بحسن الإدارة، واتخاذه منهج (أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم، لطالما استعبد الإحسان إنسانا)، فعلى الرغم من أن أهل حمص كانوا يناكفون حكامهم، وكانوا كأهل الكوفة في شكاية الحاكم إلا أنهم أطاعوا سعيد بن عامر وأحبوه وسأله عن ذلك عمر بن الخطاب الذي أعجبته حسن إدارته فقال: "إن أهل الشام يحبونك".؟
فأجابه سعيد قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم".
كانت هذه مواصفات عمر في من يتولى إمارة حمص المتمرد أهلها، والتي بها زخارف تغر الحاكم، وكان لا بد لها من وال زاهد في زخرف الحكم، وحكيم يحسن الإدارة، وقلب رقيق يواسي الناس. وعندما لا تبلغ الخلفة شكاية عن الحاكم، ويبلغه حب الناس له، فإنه سر بحسن اختياره، ولا يخاف من شعبية واليه الجديد.
ولكن أهل حمص الذين كانت الشكوى تجري في دمائهم تصيدوا أربع تهم لسعد بن عامر وشكوه بها، ومن ثم تعجب عمر وقرر أن يسائل سعدا علانية دون إسقاط لهيبته، لثقته في أن سريرته بيضاء لاشية فيها، ولعلمه بطبع أهل المدينة الشاكين.
وكانت هذه نصوص الشكوى:
1- لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار..
2- ولا يجيب أحدا بليل..
3- وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه
4- وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا، وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..
إن التهم الأربعة المذكورة كفيلة بعزل سعيد بن عامر فهي تهمه بأنه غير لائق طبيا، إذ يغيب عن الوعي أحيانا، وتتهمه بالتقصير في التواصل مع الرعية، وهي كفيلة أيضا بعزله، إذ الحاكم لا ينبغي أن يكون في برج عاجي معزول عن الناس.
لكن عمر الذ اختاره بعناية لم يخش من وضعه في قفص الاتهام، ودعا الله ألا يخيب فراسته فيه، وأجاب سعيد بما حقق ثقة عمر رضي الله عنه فقال:
أما قولهم إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار.."فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. إنه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج إليهم"..
وتهلل وجه عمر، وقال: الحمد لله.. والثانية..؟!
وتابع سعيد حديثه:
وأما قولهم: لا أجيب أحدا بليل..
فوالله، لقد كنت أكره ذكر السبب.. إني جعلت النهار لهم، والليل لربي"..
أما قولهم: إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما..."فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس بي ثياب أبدّلها، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج إليهم".
وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين.."فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وهم يقولون له: أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة.. فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته وأنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها، أرتجف خوفا من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني"..
وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..
ولم يمالك عمر نفسه ونشوه، فصاح من فرط حبوره.
" الحمد لله الذي لم يخيّب فراستي".!
وعانق سعيدا، وقبّل جبهته المضيئة العالية...