فتح مكة(8)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

حين فرق الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه من ذي طوى ، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى ، وكان الزبير على المجنبة اليسرى ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء ‏.‏

ذكر بعض أهل العلم أن سعد بن عبادة حين توجه داخلاً ، قال ‏:‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ؛ فسمعها عمر بن الخطاب - فقال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ اسمع ما قال سعد بن عبادة ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب ‏:‏ أدركه ، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها ‏.‏

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، فدخل من الليط ، أسفل مكة في بعض الناس ، وكان خالد على المجنبة اليمنى ، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من العرب ‏.‏

وضرب أبو عبيدة بن الجراح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بأعلى مكة .

وجمع المشركون وعلى رأسهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ناساً بالخندمة ليقاتلوا ، وقد كان حماسُ بن قيس بن خالد ، أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصلح منه ؛ قالت له امرأته ‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏ قال ‏:‏ لمحمد وأصحابه ؛ قالت ‏:‏ والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء ؛ قال ‏:‏ والله إني لأرجو أن أُخدِمك بعضهم ، ثم قال ‏:‏

إن يقبلوا اليوم فما لي علة *

هذا سلاح كامل وألّه  *

وذو غرارين سريع السلة *

ثم شهد الخندمةَ مع صفوان وسهيل وعكرمة ؛ فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ، ناوشوهم شيئاً من قتال ، وقُتل رجلان من جند خالد ،شذا عنه فسلكا طريقاً غير طريقه ، ،وأصيب رجل من جند خالد في اشتباك مع المشركين

وأصيب من المشركين ناس قريب من أثني عشر رجلاً ، ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته ، ثم قال لامرأته ‏:‏ أغلقي علي بابي ؛ قالت ‏:‏ فأين ما كنت تقول ‏؟‏ فقال ‏:‏

إنك لو شهدت يوم الخندمة * إذ فر صفوانٌ وفر عكرمة

وأبو يزيد قائم كالموتمة * واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمة * ضرباً فلا يسمع إلا غمغمة

لهم نَهيتٌ خلفنا وهمهمة * لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة ‏.‏

وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة و حنين والطائف ، من المهاجرين ‏:‏ يا بني عبدالرحمن ، وشعار الخزرج ‏:‏ يا بني عبدالله ، وشعار الأوس ‏:‏ يا بني عبيد الله ‏.‏

أسماءُ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ‏:

‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين ، حين أمرهم أن يدخلوا مكة ، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، منهم عبدالله بن سعد ، أخو بني عامر بن لؤي ‏.‏

وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قد كان أسلم ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش ، ففر إلى عثمان بن عفان ، وكان أخاه للرضاعة ، فغيّبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة ‏.‏ فاستأمن له  فصمت طويلاً ، ثم قال ‏:‏ نعم ، فلما انصرف عنه عثمان ، قال رسول الله ‏:‏ لمن حوله من أصحابه ‏:‏ لقد صمَتُّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ‏.‏ فقال رجل من الأنصار ‏:‏ فهلا أومأت إلي يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ إن النبي لا يقتل بالإشارة ‏.‏

‏ ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر ‏.‏             وأمر رسول الله بقتل عبدالله بن خطل وهو رجل من بني تيم بن غالب، كان مسلماً ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً ، وبعث معه رجلاً من الأنصار ، وكان معه مولى له يخدمه ، وكان مسلماً ، فنزل منزلاً ، وأمر المولى أن يذبح له تيساً ، فيصنع له طعاماً ، فنام ، فاستيقظ ولم يصنع له شيئاً ، فعدا عليه فقتله ، ثم ارتد مشركاً ‏.‏ وقتله سعيد بن حريث المحزومي وابو برزة الأسلميّ

وكان لابن خطل هذا قينتان ‏:‏ فرتنى وصاحبتها ، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه ‏.‏  وقتلت إحدى القينتين وهربت الأخرى ثم استأمنت رسول الله فامّنها .

وكان العباس بن عبدالمطلب حمل فاطمة وأم كلثوم ، ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحويرث بن نقيذ، فرمى بهما إلى الأرض ‏، فقتله علي بن أبي طالب.

أما مقيس بن حبابة ‏:‏ فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ ، ورجوعه إلى قريش مشركاً ‏،فقتله نميلة بن عبد الله – رجل من قومه.

وسارة ، مولاة لبعض بني عبدالمطلب كانت تؤذيه بمكة، فهربت، فاستؤمن لها فأمنها ، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرساً في زمن عمر ابن الخطاب بالأبطح فقتلها ‏.‏

وأمربقتل عكرمة بن أبي جهل ‏.‏  فهرب إلى اليمن ، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمنه ، فخرجت في طلبه إلى اليمن ، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم ‏.‏

قالت أم هانئ: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة ، فر إلي رجلان من أحمائي ، من بني مخزوم ، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي ‏.‏ قالت ‏:‏ فدخل علي علي بن أبي طالب أخي ، فقال ‏:‏ والله لأقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه ، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إلي ‏.‏

فقال ‏:‏ مرحباً وأهلاً يا أم هانئ ، ما جاء بك ‏؟‏ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي ؛ فقال ‏:‏ قد أجرنا من أجرت ، وأمّنا من أمّنت ، فلا يقتلهما ‏.‏ وهما الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة ‏.‏

إضاءة:

( ذو طُوى قرب مكة ) يعرف الآن بالزاهر، يُروى ان آدم عليه السلام كان إذا أتى البيت خلع نعليه بذى طوى ( والطوى بئر بأعلاها) حفرها عبد شمس بن عبد مناف- ذكره الزَّبيدي في تاج العروس. أما كَداء –كسماء- فاسم لعرفات ) وقيلَ ( جبل بأعلى مكة ) وهى الثنية التى عند المقبرة وتسمى تلك الناحية (المعلاة ) عند ذي طوى قرب شعب الشافعيين ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه ) وأما كُدَى فجبلٌ باسفلها ) (وأما الليط فأقرب مكان إلى بيوتات مكة )

لا بد من ترتيب الجيش قبل البدء بالحملة العسكرية من تعيين القادة وتوزيع المقاتلين على منافذ المدينة والإحاطة بها وتحديد المنافذ التي تدخلها السرايا، وتحديد مسؤوية كل منها.فكان للزبير مدخل كدي، ولسعد بن عبادة كَداء ،ولخالد الليطُ .وهكذا .وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، ومكة بلدة محرّمة لم يحل القتال فيها إلا ساعةَ دخلها النبي صلى الله عليه وسلم.

حين يخطئ أحد القادة فينِدّ عنه جنوح إلى القتال من غير ما سبب يُنبَّه أو تؤول القيادة إلى غيره على الرغم من مكانته – فسعد بن عبادة سيد الخزرج من الأنصار ، ولا بدّ من التزام أمر القائد العام وتنفيذ الخطة ، ويبقى سعد ذا مكانة ووجاهة، وحين تنزع منه القيادة المؤقتة لصالح الخطة يلتزم السمع والطاعة للقائد الأعلى ، هكذا يكون المسلم .

المستشار مؤتمن يعرض الصورة كما هي ويقترح الحل للأمر الطارئ أو ويوضح آثار الجنوح المدمّر، فحين سمع عمر رضي الله تعالى عنه قالة سعد بن عبادة حين توجه داخلاً :‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة - قال ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ اسمعْ ما قال سعدُ بن عبادة ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة . وترى عمر ينبه رسول الله بأدب الجندي المحب لقائده ويقترح تعريضاً وتلميحاً - لمكانة الرسول العظيمة .

وسرعان ما يستجيب القائد لمشورة صاحبه إذ يأمر احد قادته المقربين – عليّاً رضي الله تعالى عنه أن يستلم من سعد القيادة ، ونلحظ أمراً مهماً في فنّ القيادة ، فالقائد الفذّ يهيء قيادات بديلة جاهزة تسد الخلل المفاجئ ، وينبغي أن يظل هؤلاء حول القائد العام جاهزين ينتظرون أمره. ولاحظ معي صيغة التكليف النبوي " (أدركه ، ، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها) فالقائد الثاني يسد الخلل ويصوّب الأمر حتى إذا عادت الأمور إلى نصابها وصلُح الخطأ عادت القيادة إلى الأول ومارس مهمته التي انتدب لها.

 يختار القائد العام مكاناً مشرفاً على المعركة ليتابع مهمته بوضوح ، لقد ضرب أبو عبيدة ابن الجراح لرسول الله صلى الله عليه وسلم قُبة بأعلى مكة نسميها ( غرفة العمليّات ) يحرك منها جيشه فيصدر أوامره ويتلقى المعلومات وتكون بيده مفاصل الحركة كلها .

إن تعمية خبر جيش المسلمين خفّف من استعداد قريش له ، واستسلامَ زعيمها فرّق كلمة المشركين .فمنهم من دخل بيته ومنهم من دخل المسجد الحرام ، وقلّة منهم عقدت عزمها حتى اللحظة الأخيرة ان تدافع في فلول متقطعة عن نفسها ،ولا يُقدّم عملها هذا في النتيجة ولا يؤخر. ولا بد من التحسب لهذا الأمر كي تنتهي عملية الفتح بأقل الخسائر .

إن التزام الجنود بالتعليمات والأوامر يحافظ عليهم ، لكننا نجد في أكثر الجيوش التزاماً بعضَ الهَناتِ والأخطاء تعود على مرتكبيها بالخسارة أولاً وعلى هذا وجدنا أن رجلين من سرية خالد شذا عنه فاصطادتهما فلول قريش قبل أن يقضي عليها خالد ، ولعل سوء تقدير الأمور وعدم الانضباط لدى أمثال هذين في كل زمان ومكان يوقع صاحبه في شر أعماله ، وقد يُقال : إن قدرهما ساقهما إلى ما فعلاه ،فنحن نذكر بما ينبغي ان نفعل وما يمكن أن يكون،  وما قدّره الله سبحانه كائن لا محالة.

وإذا تغاضينا عما فعله صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل فإنهم خافوا على أنفسهم أن يؤسروا فيُقتلوا ، وآثروا أن يُقتلوا في معركة خير لهم وأكرم! وغاب عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الحلماء الرحيم بالناس يعفو عن شانئيه إذا آبوا إلى الحق ولا يغضب لنفسه ،وشعارُه : (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.) إذا تغاضينا عما فعلوه علمنا أن السرّيّة في التحرك والتخطيط آتت أكُلَها.

ولعل امرأة حماس بن قيس بن خالد من بني بكر الذين كانوا سبب إنهاء صلح الديبية حين قتلوا بعض خزاعة كانت أعقل من زوجها حين ارادت ثنيه عن التعرض للمسلمين فكان جوابه بعيداً عن الواقع وبعيداً عن الصواب فأعلن في لحظة اندفاع أنه سيُخدِمها بعض المسلمين ثم اندفع هارباً يعلل هربه . وكان أولى به أن يتصرف بحكمة وتعقّل ، إلا أن سوء التصرف وسرعة الحمية توقع صاحبها ومن معه في مآزق هو في غنى عنها.

إن التزام كل مجموعة من المسلمين بشعار يرددونه في معركتهم يُعرّف بعضَهم بعضاً إذا التقوا في غبار المعركة خشية أن يقتل أحدهم أخاه ، ويدفع إلى التمايز وبذل أقصى العطاء ، ويدفعهم إلى التعاون على عدوهم حين يلتقونه ..

بعض المشركين استنفدوا فرص العفو والنجاة ، بعضهم كان مسلماً فارتدّ ،وبعضهم أفحش في عداوة المسلمين وكان بوقاً ينثر الشتائم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويؤلب المشركين عليهم ، ومنهم من اشتد في الإيذاء فقتل بعض المسلمين .فليس لهؤلاء عفو لمثابرتهم حتى اللحظة الأخيرة على مواقفهم المشينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم (وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ) وهذا حكم قطعيّ ليعلم هؤلاء أن من يسيء إلى المسلمين لا رحمة بحقه ولا هوادة فقد حكم على نفسه بالقصاص العادل قبل أن يُحكم عليه.

بعض هؤلاء قتل قصاصاً ، وبعضهم الآخر استأمن وتاب وهو في مكة  فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذلّ وخضع ، وقسم ثالث هرب ونجا من القصاص الدنيويّ إلا أنه اعلن الرغبة في العودة والتوبة إلى الله فقبل رسول الله توبته، فكان عفوه صلى الله عليه وسلم عنه درساً لنا في الصفح والمغفرة وفي النظرة البعيدة والفهم الصحيح الصافي . إن من هؤلاء من قاتل في سبيل الله وذهب شهيداً ، وبعضهم حسُن إسلامُه وكان داعية إلى الله وثبّت الله على يديه جماعة المسلمين أن يرتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

ما فعلته أم هانئ في إجارة بعض أحمائها دليل على انّ للمرأة في الإسلام مكانة وكرامة وأنها جزء من المجتمع ينبغي أن يكون له الدور الإيجابي ، لم تكن المرأة متاعاً وحسب بل كانت الأم والأخت والبنت والزوجة ، إنها نصف المجتمع الجميل وشطره اللطيف .

إننا نرى الحياة البسيطة التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد فتحها ، لم يستولِ على أفخم بيوتها ليكون مقر إقامته ، ولم يعد إلى أحد بيوتاته التي باعها ابن عمه عقيل بن أبي طالب فلم تعد له ، ولم يقل إن عقيلاً سلبها دون حق فأنا أستردها وعلى عقيل أن يعيد لمن اشتراها منه ثمنها ، لقد قال : ما ترك لنا عقيل بيتاً .

يغتسل خارج خيمته  بجفنة قديمة فيها أثر العجين ، تستره ابنته فاطمة رضي الله عنها ، فليس مِن إماء يخدمنه!ويصلي فبعد الاغتسال يُستحب الصلاة ، ثم يُقبل على قاصده يستقبله ويقضي حاجته .. إنه خير أسوة ، صلى الله عليه وسلم.