مشاهد في رحلة الحج
حسام مقلد *
تمثل رحلة الحج المباركة حدثا مهما في حياة المسلم؛ فالحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وعنه أيضا قال: "سَمعتُ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يقولُ: "مَن حجَّ للهِ، فلم يَرفُث ولم يَفسُقْ، رجَع كيوم ولدَته أمُّه" (رواه البخاري).
ولا شك أن أرواح المسلمين وقلوبهم تهفو إلى بيت الله الحرام، قال تعالى: "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج: 26 ـ 27) ولعل ذلك استجابة من الله تعالى لدعوة خليل الرحمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ حين قال: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ"(إبراهيم:37).
فها هي جموع الحجيج تأتي إلى البيت الحرام من كل مكان تطلب المغفرة من الله تعالى، وترجو عفوه وجوده ورحمته جل شأنه، ورحلة الحج ليست كأي رحلة في حياة الإنسان فهي رحلة إيمانية مباركة، ومهما قرأ المرء عنها أو سمع من العلماء والمشايخ، أو شاهد على شاشات التلفاز فلن يدرك بالفعل روحانية مشاعر الحج العميقة إلا بالمعايشة، وقد منَّ الله تعالى عليَّ بأداء هذه الفريضة العظيمة ولله الحمد، وفي ذاكرتي الكثير والكثير من المشاهد الرائعة التي لا تنسى، منها:
حاج هندي يحمل جده طوال الحج:
في يوم عرفة، يقف الحجيج على صعيد عرفات الطاهر داعين مهللين مكبرين، ويحب كثير من الحجاج لاسيما الشباب صعود جبل عرفات المشتهر عند الناس باسم (جبل الرحمة) وهذا ليس من مناسك الحج، فلم يكن من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صعود هذا الجبل في حجه، ولا اتخذه منسكاً، وهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خذوا عني مناسككم" والذي ثبت أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف تحت هذا الجبل وقال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف".
وفي هذا اليوم المبارك يجتهد الحاج في العبادة والطاعة والدعاء، ويرق قلبه ويتسع لجميع البشر، وتغمر السكينة والسلام والطمأنينة نفوس الحجيج، ويؤثر كل منهم الآخرين على نفسه، ويتسابق الجميع في تقديم العون والمساعدة لكل من يراهم، وعقب انتهاء خطبة الحج واشتداد الحر قام بعض الشباب بتوزيع العصائر والمياه الباردة ووجبات الطعام على الحجاج، وفي هذه الأثناء رأيت شابا في أواخر الثلاثينات من عمره يحمل على ظهره شيخا هَرِمًا ربما في التسعين من عمره، ويصعد به جبل الرحمة، فاقتربت منهما في لطف وسلمت عليهما وقدمت لهما بعض الماء والعصير، فشكراني بشدة، وحاولت إقناع الشاب بعدم صعود الجبل فهذا الأمر سيشق عليهما، وهو ليس من مناسك الحج، فأخبرني بلغة إنجليزية ركيكة أنه شاب هندي وأن هذا الشيخ الذي يحمله على ظهره هو جده، وأنه فلاح فقير في التسعين من عمره، وأنه يدخر نفقات رحلة الحج هذه منذ قرابة ستين عاما، وأنه أنفق كل ما ادخره ليحضر معه إلى الحج، ويعز عليه ألا يصعد جبل عرفات بجده العجوز بعد كل هذه العقود الطويلة من الأشواق واللهفة والانتظار... ولقد رأيت هذا الشاب يحمل جده المسن طوال رحلة الحج: في الطواف، والسعي، وعند الجمرات، بل وفي الحمامات ودورات المياه... وأجزم أنني طوال عمري ما رأيت أحدا يبر جده كهذا الشاب الصبور الرحيم.
رحماء فيما بينهم:
كانت رحلة الحج فرصة عظيمة لي لمشاهدة أكبر عدد من الجنسيات المسلمة، والتعرف على طبائعها وعاداتها وتقاليدها وأنماط ثقافتها، وكنت أحمل قلمي ودفترا كبيرا في كل تحركاتي بعد انتهاء أعمال الحج اليومية، وبعد أن نفر الحجيج من عرفات إلى مزدلفة كنت في قمة الإعياء والتعب!! فما أن انتهت صلاة العشاء حتى صليت ركعة وتر ونمت مكاني مباشرة، وبعد نحو ساعتين وجدت يدا توقظني برفق وحنو شديد، فإذا هو حاج كَنَدِي كان يراقبني باهتمام، وعزَّ عليه أن أنام دون طعام، فلم يأكل وتحمل الجوع وتركني لأرتاح بعض الوقت، ثم أيقظني لأتناول معه العشاء، فشكرته وأكلت معه بعض الطعام.
مصر في الحج:
أثناء الطعام تعارفنا وأخبرني أنه مسلم كندي وأنه يحب مصر جدا ويحرص دائما على سماع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ الحصري والمنشاوي رحمهم الله جميعا رحمة واسعة، ونفس الشيء تكرر معي يوم النحر وطوال أيام التشريق، حيث كنت أطوف على مخيمات الحجاج من كافة الجنسيات أراقب وأشاهد وأتأمل وأتابع وأسجل كل ما أراه، وكان الجميع يرحبون بي ويزداد الترحيب عندما يعلمون أنني مصري، وأذكر جيدا أن القاسم المشترك الذي يربطهم بمصر هو الأزهر الشريف وتلاوات القرآن الكريم لمشاهير القراء، وساعتها أدركت أن أعظم ما تمتلكه مصر من قوة ناعمة هو تأثيرها الثقافي وإشعاعها الفكري والحضاري في أمتها والعالم.
الأقصى جرح الأمة:
من الأسئلة التي كنت أطرحها على كل من لقيتهم في الحج: (ما واجب المسلمين تجاه المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟!) وكان الجميع يؤكدون على أن الأقصى هو جرح الأمة النازف، وأننا يجب أن نتحد ونتعاون من أجل تحريره من احتلال اليهود الغاصبين.
ليشهدوا منافع لهم:
وفي الحج يتحقق قول الله تعالى: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج:28) فقد رأيت حجاجا كثرا من تيلاند وروسيا والسينغال وكينيا والشيشان والبوسنة... وغيرها يتاجرون في أنواع لا حصر لها من السلع والمنتجات، الكل يجمعهم الإسلام، ويظلهم نوره المشرق في النفوس، ويسود بينهم الانسجام والمودة، وهدف الجميع بلا استثناء رضا الله تعالى وثوابه ورحمته، أسأل الله تعالى أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشدها، وأن يرزقها النصر والعزة والتمكين؛ لتنشر الخير والسلام والمحبة في ربوع العالم أجمع.
* كاتب إسلامي مصري