فتح مكة (7)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

خاطب العباسُ أبا سفيانَ: النجاء إلى قومك ، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبَل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة ، فأخذت بشاربه ، فقالت ‏:‏ اقتلوا الحمّيت الدسم الأحمس ، قبُح من طليعة قوم ‏!‏ ‏.‏ والحَمِّيت :الزق لا شعر عليه( وتقصد أنه سمين ) والدسم : (القذر) والأحمس: (الغليظ) .فهي تسبّه وتشتمه.

قال ‏:‏ ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قِبَل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ؛ قالوا ‏:‏ قاتلك الله ‏!‏ وما تغنى عنا دارك ؛ قال ‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ‏.‏

 فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حَبَرةٍ حمراء (والحَبَرَةُ نوعٌ من برود اليمن مُنَمَّر)، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل ‏.‏ ( والعثنون شعرات لحيته الطويلة)

لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى قال أبو قحافة لابنة من أصغر ولده -  وقد كُفَّ بصره - ‏:‏ أي بنية ، اظهري بي على أبي قبيس (جبل في مكة) ؛ ‏ ، فأشرفت به عليه ، فقال ‏:‏ أي بنية  ماذا ترين ‏؟‏

قالت ‏:‏ أرى سواداً مجتمعاً ، قال ‏:‏ تلك الخيل ؛ قالت ‏:‏ وأرى رجلاً يسعى بين يدي ذلك مقبلاً ومدبراً. قال ‏:‏ أي بنية ، ذلك الوازع ، يعني ‏:‏ الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ؛ ثم قالت:‏ قد والله انتشر السواد ‏.‏

‏ فقال ‏:‏ قد والله إذن دفعت الخيل ، فأسرعي بي إلى بيتي ، فانحطّت به ، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته ، وكان في عنق الجارية طوق من ورِق ، فتلقاها رجل فاقتطعه من عنقها ‏.‏

 فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ودخل المسجد ، أتى أبو بكر بأبيه يقوده ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏

قال أبو بكر ‏:‏ يا رسول الله ، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت ؛ فأجلسه بين يديه ، ثم مسح صدره ، ثم قال له ‏:‏ أسلم ، فأسلم،‏ فدخل به أبو بكر وكأن رأسه ثغامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ غيروا هذا من شعره ‏.‏

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته ، وقال ‏:‏ أنشد الله والإسلام طوق أختي ، فلم يجبه أحد ؛ فقال :‏ أي أخيه ، احتسبي طوقك ، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل ‏.‏

 

إضاءة :

1-  ما ترك العباسُ أبا سفيان إلا بعد أن داخل قلبَه الخوفُ والفزع مما رأى من عدد المسلمين وعُدّتهم ، وانقلب سفيراً للمسلمين – شاء أم أبى – يدفع عنهم خَطَرات المشركين في أن يستعدوا لهم ويقاتلوهم . ولئن انتظروا ما يأتيهم به من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إنهم لم يكونوا مستعدين كما ينبغي أن يفعلوا وهم يعلمون نقضَهم للعهد وغضبَ رسول الله المتوقّعَ . فكيف ينطلق أبو سفيان وحده يتقصّى الخبر ؟ وأين مجموعة الرصد التي كان عليها أن تجوب مساحات واسعةً ومسافات متقدمة تستطلع ما يفعله المسلمون وما خططوا له؟!. لقد تشتت أمرهم وتصدّعت قوتُهم.

2-  وكأن العباس لقّن أبا سفيان ما ينبغي أن يفعله ( النجاء إلى قومك) وعلم أبو سفيان قلة حيلته وحيلة قومه فلم ينطلق إلى دار الندوة يجمعهم ويطلعهم على خارطة الموقف  ، إنما كانوا ينتظرون رسول الله مستسلمين لما قد يكون ، كما أنّ بعضهم كان ينتظر وصول أبي سفيان في داره. وهذا ينبئ عن ضعفهم الشديد الذي وصلوا إليه ، فلما التقاهم صاح بأعلى صوته ‏:‏ "يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به." وهل يفعل هذا إلا من أيقن بهزيمته ابتداءً ، فقد ساغ هذه الحقيقة حين التقى رسول الله وعاين قوة المسلمين ، فنطق الكلمة التي أعلن فيها الاستسلام ، فضعضع من كان يفكر في قتال المسلمين.

3-  وكان قوله ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) يعني أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاين الموقف وذَلّ له فنال الأمان . وإذا كان رأس قريش الذي قاد الحروب ضد المسلمين وشحن نفوس القوم وجمع الجموع في السنوات الماضية لحربهم يعلن من بيته الموقف الواضح ، فما على القوم إلا أن يتابعوه وإلا فالهزيمة النكراء مصيرهم . اختصر النبأ بهاتين الجملتين القصيرتين اللتين تنبئان عن حقيقة الموقف .

4-  إنه أمن على نفسه فما بال أهل مكة وما يصنعون؟! ندّت عن زوجه كلمات قالتها منفعلة مما نطق، فسفّهته في هذا الموقف العصيب - ولمن تتسع داره ؟!- أهذا ما جاء به وهو الزعيم دون منازع؟! أين اهتمامه بقومه ؟ وكيف يرضى النجاء بنفسه ؟ قالوها بلسانها وإن لم ينطقوها بأفواههم . إنها تشتمه وتحرّض عليه ، وتعنفه ولا أدل على ذلك من إهانته امام القوم حين أخذت بشاربه . ولعل أحدهم في هذه اللحظة الحَيرى يثب عليه فيقتله ، فقد غدر بهم ... إنها لحظات رهيبة يفقد فيها المرء توازنه ويُبلس. وقد يتصرف برعونة ولا يدري ما يفعل.

5-  في زحمة هذه الأفكار التي أحاطت الجمع الغفير أمام بيته ، يُنبّههم أبو سفيان أن يتداركوا أمورهم ويتصرفوا بحكمة فلا يصدر عنهم أفعال لا يُحمد عقباها ، ويكرر مقولته الأولى التي لم ينطق بغيرها حتى هذه اللحظة :( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن). إذ ذاك يشتمونه مستنكرين(  قاتلك الله ‏!‏ وما تُغنى عنا دارك)؟ وهنا حين يستيقن أنهم تابعوه فيما يحفظ حياتهم وأموالهم يفتح لهم سبل النجاة :( ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن) . وينطلق الناس إلى دورهم . ومن كانت داره بعيدة لجأ إلى البيت الحرام يطلب فيه الأمان والنجاة.

6-  وفي ( ذي طوى) أقرب أودية مكة إليها وعلى تخومها يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته ويحني ظهره تواضعاً لله، إقراراً بفضل الله سبحانه. فالنصر من عند الله ، وما ينبغي لذي لب أن ينسب الفضل لغير الله سبحانه. وما يتعالى في مثل هذا الموقف إلا أهل الهوى والغافلون عن الحقيقة الذين لا يرون إلا ذواتهم ، المتكبرون في أنفسهم .. يقرأ سيد القادة قوله تعالى " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ويهديَك صراطاً مستقيماً ، وينصرك الله نصراً عزيزاً " .

7-  من رسول الله صلى الله عليه وسلم نتعلم حُسن الأدب فهذا الصدّيق أبو يكر رضي الله تعالى عنه يأتي بأبيه الأعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض إسلامه فيقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه ، ويقول مشفقاً على الشيخ العجوز متحبباً إلى صاحبه ورفيق دربه: " هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه ‏؟‏" أدب راق ونفس متواضعة وخلق رائع.

8-  والصدّيق صاحب الحبيب وتلميذه النابه وسيد الصحابة وخليفته من بعده يجيب بأدب جمّ ، فيه حبٌّ ولطف، وفيه درسٌ بليغ للمسلمين يوضح مكانة النبيّ في نفوس أصحابه "  هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت" صلى عليك الله يا سيدي ، ورضي الله عن أبي بكر الصدّيق العظيم.

9-  ما يزال الرجل الاول في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه يمدحه المصطفى قائلاً " إنَّ أبا بكرٍ خيرُ من طلَعَت عليهِ الشَّمسُ وغرُبَت" - رواه أبو الدرداء-  يعلمنا البر بالوالدين ، فمن برّه حرصه على إسلامه ليكون من أهل الرضوان والجنة .

10-                     كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يوجّه الناس إلى التجمل والظهور بمظهر حسن إذ يرى شعر والد الصدّيق أبي بكر أبيض يابساً فينبه إلى تغيير لونه بما يناسب سنّه ، ، ولابأس أن يصبغ الشابُّ والقريب من الشباب شعره بالسواد ، ويتجنب العجوز اللون الأسود " غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" .

11-                     ليس كل المسلمين ذلك الرجل المؤمن الواعي الملتزم بالأخلاق ، منهم التقي ومنهم دون ذلك . أكانَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم كان في هذا الزمن فالإسلام نبتة تُبذر في القلب وتُسقى من نبع الإيمان الصافي ، فمن اعتنى بهذه النبتة بسقت شجرةً وارفة الظلال ، ومن أهملها اعوجّت وضعفت ، ولربما سقطت أوراقها وهزلت غصونها.

12-                     وعلى هذا نجد بعض المسلمين يخالفون هدي النبي وأوامره في عدم التعرض للمسالمين من أهل مكة ، فيمد أحدهم – وهو على فرسه- يده إلى إحداهنّ فيقتطع من عنقها حُليَّها وحين يُطالب أهل الحق برد ما سُلب يتغافل السارق ، ونسمع قول الصدّيق متألماً " فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل" فماذا نقول اليوم وقد طمّ الأمر واستفحل الخطبُ حتى إن الدماء لتُسفك والقتل يستَحِرّ والنهب يعُمّ وانتهاك الحُرُمات ينتشر والمفاسد تستعِرُ؟ ماذا نقول أيها الصدّيقُ ، والظالم في بلاد المسلمين يفعل الأفاعيل قتلاً ونهباً وتدميراً وتشريداً تحت مرأى المتشدقين بحقوق الإنسان وسمعهم دون أن يحرّكوا ساكناً .؟

اللهم إليك المشتكى  يا ناصر المستضعفين ويا أمان الخائفين ..