دروس يوسف السجين للثوار المظلومين
أ.د. محمود نديم نحاس
جامعة الملك عبد العزيز
في إحدى ليالي الأسبوع الماضي وصل إمامنا في قراءة التراويح إلى سورة يوسف عليه السلام، فكان كلما قرأ آية جال في خاطري درس عظيم، وتمنيت أن هناك آلة تسجل ما يدور في الأذهان قبل أن يطويها النسيان، ولذا بدأت بكتابة هذه المقالة بعد عودتي لعلي أستجمع ما دار في فكري.
إن دروس قصة يوسف عليه السلام كثيرة جداً، وسأكتفي في مقالتي القصيرة هذه بذكر بعضها التي أتمنى أن يدرسها الذين ثاروا على الظلم والطغيان في بلدان الربيع العربي، للتشابه بين الظلم الواقع عليهم وبين ما وقع عليه، لاسيما وأنه جاء في نهاية السورة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ. مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ، وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). فما هي العبر التي يمكن أن نهديها لهؤلاء الثوار؟
تبدأ مشكلة يوسف في ملاحظة إخوته حب أبيهم له ولأخيه الشقيق، فيغلي الحقد في نفوسهم إلى الدرجة التي فكروا فيها بقتله أو طرحه في أرض نائية ليموت. ويا لها من جريمة كبرى. لكنهم خففوا من جريمتهم فألقوه في جب على طريق القوافل لعل أحداً ينقذه ويأخذه بعيداً. ظلم ما بعده ظلم. ثم كذبوا على أبيهم بأن يوسف قد أكله الذئب، ومدحوا لأنفسهم بأنهم كانوا حريصين عليه، تماماً كما يفعل الطغاة، بتلفيق الكذب، وتغييب الشرفاء في السجون، وادعاء الصمود أمام العدو.
ولم تطل محنته، فقد أخرجته إحدى القوافل، لكنه بيع مملوكاً، فكانت هذه محنة ثانية. وفي قصر الذي اشتراه واجه محنة ثالثة، ألا وهي التعرض للغواية. ولأنه آثر العفة ورفض الانسياق فقد اتهم بالذنب لينجو المذنب الحقيقي، فأودع بالسجن. وأنا أكتب هذه الكلمات كان التلفاز يعرض قصة سيدة من بلاد الشام أودعت بالسجن ثماني سنوات دون ذنب ودون محاكمة!
وفي السجن يعطينا دروساً رائعة، فلم يتبرم رغم أنه مظلوم، بل كان مثالاً للصلاح، فصار مسموع الكلمة، وراح يدعو الناس إلى الله، ويفسر لهم أحلامهم دون أن ينسب العلم لنفسه بل لربه. وبقي في السجن إلى أن منّ الله عليه بالفرج، وكان فرجاً مقروناً بنعمة عظيمة حيث أُعلنت براءته رسمياً بحضرة الملك، ولكن لتبدأ محنة جديدة هي محنة الرخاء والعز والتمكين.
لقد طلبه الملك ليستخلصه لنفسه بعد أن اطلع على قصته فكبر في عينه، لاسيما وأنه لم يستعجل الخروج من السجن إلا بعد أن تُعلن براءته، ليعطي درساً للجميع بأنه لا داعي لأن ينافقوا لكي يصلوا إلى أعلى المناصب، فهم سيصلون إليها عندما يشعر المسؤول أنهم أهل كرامة وإباء ومحل ثقة! وهنا طلب يوسف من الملك (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الأَرْضِ. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، فأمانته وخبرته تؤهلانه لإدارة الأزمة القادمة. لم يطلب المنصب لمغنم، إنما ليكون مسؤولا عن إطعام الناس طوال سبع سنوات بحسن إدارته. وإنه لتكليف ثقيل ومسؤولية شاقة، لكن من طلبها ابتغاء الأجر من الله فسيُعان عليها (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ، وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
وبإخلاصه وحسن تدبيره صارت مصر مقصداً لكل الناس الذين عانوا من الجدب والمجاعة، فكان أن جاء إخوته فأعطاهم، ثم خطط ليستدرجهم فيعودوا. وفي المرة الثانية اتهمهم بالسرقة ليأخذ أخاه منهم. ولأنه كان يعرف شريعتهم، فإنه لم يحاكم أخاه بقوانين مصر، بل سألهم ماذا يفعلون بالسارق؟ فأعلموه بأن من يسرق يؤخذ عبداً! ولقد تنصلوا من نقيصة السرقة وألقوها على شقيقه بل وقذفوه بها هو دون أن يعلموا أنه يوسف! فأسرَّها في نفسه!
ثم راحوا يفاوضونه على أن يأخذ أحداً منهم مكان شقيقه لأنهم عاهدوا أباهم بأن يعودوا به، فيأتي الدرس الجديد (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ). نعم لن نأخذ أحداً رهينة بدل غيره، لأن هذا ليس من العدل!
محنة قاسية على الأب المفجوع بفقد ولده الثاني ذكَّرته بولده الأول، فبكى حتى ابيضت عيناه من الحزن. فأعطانا درساً بأن تكون الشكوى إلى الله. وألح عليهم أن يعودوا فيحاولوا العثور على يوسف وأخيه، ويعقِّب (وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
عادوا ودخلوا على يوسف في انكسار، وطلبوا منه مسترحمين، فإذا به يترفق بهم ويذكِّرهم بما فعلوه به وبأخيه، فعرفوه، فأعطاهم بل أعطانا درساً (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). فاعترفوا بالخطيئة وأقروا بالذنب، فقابلهم بالصفح والعفو (قَالَلا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). ثم استعجلهم بالعودة إلى أبيه ليلقوا عليه قميصه فيرتد إليه بصره، وهي معجزة للنبيين يعقوب ويوسف. واعتذروا من أبيهم لكن لم يكن عفوه سريعاً كعفو يوسف بل (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).
وتجتمع الأسرة في مصر بعد كل تلك الأعوام، وبعد الألم والضيق، وبعد الامتحان والابتلاء، فيعدد يوسف النعم التي أنعم الله بها عليهم، وينسب ما فعله إخوته إلى نزغ الشيطان، فيا له من درس لا مثيل له في العفو عند المقدرة.
وبعد كل هذا يتوجه يوسف إلى الله بالاعتراف بأن كل ما ناله من النعم هي منه سبحانه، ولذا فإنه وهو في أبهة السلطة، وفي فرحة تحقيق الأحلام، يطلب من الله أن يتوفاه مسلما وأن يلحقه بالصالحين، فهذا هو النجاح المنشود.
وتختتم سورة يوسف بتوضيح طبيعة دعوة الرسل والشدة التي ينالونها، فبعد أن يستحكم الكرب، ويشتد الضيق، ويبذل الناس كل جهد ممكن، يجيء النصر (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).