ثورة الإيمان

(1)

د. كولن تورنر (2)

كثيرا ما أسأل –لأنني ولدت وترعرعت في بريطانيا–  هذا السؤال:

– ماذا تستطيعون – كمسلمين– أن تقدموا للغرب؟

ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال أود أن أسأل سؤالا:

أنحن مسلمون لأننا نؤمن بالله تعالى؟

أم نحن نؤمن بالله تعالى لأننا مسلمون؟

لقد خطر ببالي هذا السؤال قبل مدة طويلة خلال اشتراكي في مظاهرة طافت شوارع “لندن” للتنديد بالاحتلال الروسي لأفغانستان... كنت قد اعتنقت الإسلام رسميا قبل هذا بسنوات عديدة، ولم تكن هذه هي المظاهرة الأولى التي اشترك فيها.

كانت المظاهرة تحوي شعارات وإعلانات وهتافات أمثال: “اخرجي يا روسيا”... “الموت لبريجينيف “[3]... ”يحيا مسلمو أفغانستان، وكنا نهتف بهتافات إسلامية: “الله أكبر”... ”لا إله إلا الله”

وعندما اقتربت المظاهرة من نهايتها تقدم نحوي شاب قدم نفسه إليّ بصفته مهتما بالإسلام... قال لي:

– عفوا... ولكن ما معنى “لا إله إلاّ الله؟”

ودون أي تردد أجبته:

– معناها أنه لا يوجد إله إلاّ الله.

قال لي:

– أنا لا أسألك أن تترجم الجملة لي... ولكني أود أن أسألك: ماذا تعني هذه الجملة حقا؟

وعندما تبيَّن عجزي كان هناك صمت طويل ومحرج.

لا شك أنكم ستقولون في أنفسكم:

– ما هذا المسلم الذي لا يعرف معنى لا إلٰه إلا الله؟

وأجيب عن هذا: 

–إنه مسلم نموذجي

في تلك الليلة فكرت مليا حول جهلي... ولم يكن يعزيني أن الأغلبية تشاركني في مثل هذا الجهل، بل زاد ذلك من ضيقي.

إذن فكيف أصبحت مسلما؟

لا شك أنكم سمعتم إحدى نوادر “نصر الدين خوجا” (جحا) وهي أن صديقا له مر عليه يوما فوجده جالسا وأمامه سلة كبيرة مملوءة بالفلفل الأحمر وقد احمرت عيناه وانتفختا والدماء تسيل من فمه والدموع من عينيه... ولكنه وجده –على الرغم من هذا كله– مستمرا في تناول وأكل الفلفل الأحمر، فقال له:

– لماذا تعذب نفسك هكذا يا صديقي؟

أجابه “نصرالدين خوجا” وهو يأكل فلفلة أخرى:

–لأنني آمل أن أعثر في السلة على فلفلة حلوة.

لقد كنت في الموقف نفسه... لم تكن هناك أية أيدلوجية، أو أي طراز من طرز المعيشة التي جربتها يمكن أن يكون مشبعا أو متجاوبا مع الحاجة الداخلية للإنسان... الحاجة في العثور على شيء أفضل... على شيء يستحق أن نعيش لأجله... ولكننا لم نستطع العثور على هذا الشيء.. هذا الشيء الذي يتملص من بين أيدينا ويحيرنا، والذي كنا نتوقع أنه في متناول يدنا وقريب منا .

ولكي أتخلص من أوهام كل مظهر من مظاهر حياتي، تركت لندن وتوجهت إلى الشرق الأوسط... لم يكن هذا اختيارا شعوريا... ولكني استطعت هناك أن أعثر على الفلفل الأحمر الحلو.

رأيت أن الإسلام يقدم معنى بشكل لا يشبهه أي شيء آخر، فهو يحتوي على قوانين لإدارة الدولة، وله نظام اقتصادي، وقواعد تشمل كل منحى من مناحي الحياة اليومية، وهو يخاطب جميع العناصر والشعوب على قدم المساواة، وهو سهل الفهم وواضح... وعلاوة على ذلك فله إله... إله واحد لا شريك له.. هذا الإله الذي كنت أومن به من قبل بشكل غامض ومبهم.. وهذا ما كنت أريده، لذا فقد قلت: “لا إله إلاّ الله” وأصبحت عضوا في هذا المجتمع، ولأول مرة في حياتي ذقت طعم الانتماء.

وعادة ما يكون المهتدون متحمسين جدا لمعرفة كل ما يمكنهم معرفته حول دينهم الجديد في أقصر مدة ممكنة. لذا فبعد بضع سنوات من اهتدائي توسعت مكتبتي بسرعة، فقد كان هناك الكثير مما لا أعلمه، وكانت هناك كتب عديدة مستعدة لتعليمي... كتب عن التاريخ الإسلامي، وعن النظام الاقتصادي للإسلام، ومفهوم الدولة في الإسلام، وكتب وكراسات عديدة عن القوانين الإسلامية (الشريعة الإسلامية)، والأهم من هذا كله كانت هناك الكتب التي تبحث موضوع الإسلام والثورة... أي كيف يهبّ المسلمون ويشكلون الحكومات والجمهوريات الإسلامية. وعندما رجعت إلى بريطانيا في أوائل عام 1979 لمتابعة دروسي في الجامعة كنت متهيئاً لتقديم الإسلام إلى الغرب والتبشير به.

رجعت إلى هذه الكتب للعثور على جواب حول السؤال: ما معنى لا إله إلاّ الله؟ ولكني أصبت بخيبة أمل.. كانت هذه الكتب حول “الإسلام” وليس عن “الله” ... كان في هذه الكتب كل ما يخطر على بال الإنسان من مواضيع... ولكن الموضوع الأهم لم يكن موجودا... تقدمت بالسؤال إلى إمام مسجد الجامعة، ولكنه قدم لي عذرا وتركني ومضى، ولكن أخا سمع حديثي مع الإمام تقدم مني وقال:

عندي تفسير لـ “لا إله إلاّ الله”،  ونستطيع –إن أحببت– أن نقرأه معا. وقد تصورت أن هذا التفسير سيكون حوالي عشرة أو عشرين صفحة في الأكثر، فإذا به يجاوز خمسة آلاف صفحة!!... وكما تتوقعون فقد كان مجموعة “رسائل النور” للأستاذ سعيد النورسي.

كنت أتصور أن رسائل النور ليست إلا رسائل في التصوف، لذا فقد أهملتها، ولكن صديقي هذا قال لي:

– إن رد فعلك هذا نحو رسائل النور ليس إلا نتيجة نظرة ضيقة.

ومن دون الانعكاسات الفكرية التي كانت كتبي القديمة تقدمها لي، كنت أحس بالضياع وبالجهل. ولكني وجدت في رسائل النور لغة جديدة تماما، ونظرة جديدة.

وعندما لاحظ صديقي اضطرابي وقلقي قال لي:

– لا تقلق...! إن الكتب التي قرأتها سابقاً كل لها مكانتها وفائدتها... إنها مثل الجلد أو القشرة، ولكن هذا – وأشار إلى رسالة “الآية الكبرى”– يعد بمثابة الثمرة.

وبدأنا معا بقراءتها.

في هذه المرة بدأ كل شيء –بفضل من الله– يأخذ مكانه الصحيح.

كل منا يولد جاهلا تمام الجهل، ولكن الرغبة في معرفة أنفسنا ومعرفة العالم المحيط بنا رغبة فطرية، لذا فكل منا يجيب بطريقته الخاصة عن أسئلة عديدة أمثال: من أنا؟ .. ما المكان الذي وجدت نفسي فيه؟... ما وظيفتي هنا؟... من المسؤول عن إيجادي أو خلقي؟... يجيب عن هذه الأسئلة إما من خلال ملاحظاته ومشاهداته، أو من خلال التقبل الأعمى للأجوبة المقدمة إليه من قبل غيره. وعلى ضوء هذه الأجوبة يُعيّن الإنسان طراز عيشه في هذه الدنيا، وتتحدد لديه المعايير التي يلتزم بها ويتحرك ضمنها، وما رسالة “الآية الكبرى” إلا سياحة في هذا الكون برفقة مرشد، وهذا السائح يفتش عن أجوبة لهذه الأسئلة.

ولا تقدم “الآية الكبرى” الإيمان بالله كبديهية منذ البداية، بل تسير من “المخلوق” إلى “الخالق”، وهي تقرر وتبرهن على أن أي شخص يبحث بإخلاص عن جواب لهذه الأسئلة، وينظر إلى الكون المخلوق كما هو وليس كما يرغب فيه أو يتخيله... مثل هذا الشخص سيصل حتما إلى نتيجة: “لا إله إلاّ الله” ذلك لأنه سيرى نظاما وتناغما... جمالا وتوازنا... عدالة ورحمة... ربوبية ورحمة... وسيدرك أن هذه الصفات لا يمكن أن تعزى إلى المخلوقات نفسها، بل إلى “الحق” الذي هو مصدر هذا الوجود والكمال والمطلق. وسيرى أن هذا العالم المخلوق ليس إلا كتابا لأسمائه الحسنى، وفهرسا يخبر ويشير إلى خالقه وإلى صاحبه.

وفي رسالة “الطبيعة” يتوسع بديع الزمان في تفسير “لا إله إلاّ الله” إذ يتناول موضوع السببية Causality التي هي حجر الأساس للمادية، والعمود الذي شيدت عليه العلوم الحديثة، إن الإيمان بالأسباب أو بالسببية يؤدي إلى تصريحات أو أقوال عديدة مثل: (اقتضته الطبيعة) أو (الطبيعة خلقته) أو (حدثت مصادفة) أو (أوجدته الأسباب)... الخ، وضمن حوار ومناقشة منطقية يفجر سعيد النورسي ويهدم أسطورة السببية، ويكشف بكل وضوح أن المتمسكين بهذه العقيدة ينظرون إلى الكون لا كما يبدو في الحقيقة وفي الواقع، بل كما يحبون هم أن يظهر وأن يبدو حسب تفكيرهم ومزاجهم.

ويبين بديع الزمان في رسالة (الطبيعة) بكل وضوح أن جميع المخلوقات في مختلف مستوياتها مرتبطة بعضها مع البعض الآخر بعلاقات متداخلة ومتشابكة كالدوائر المتحدة المركز، أو كالدوائر المتقاطعة، وهو يشير إلى أن المخلوقات تبدو وكأنها جاءت إلى الوجود من العدم، وفي أثناء حياته القصيرة يقوم كل مخلوق... حسب ما كلف به من وظائف وغايات وأهداف خاصة به ... بوظيفة المرآة التي تنعكس عليها مختلف الصفات الإلهية ومختلف الأسماء الحسنى، وأن ما يظهره كل مخلوق من العجز، وسرعة الزوال والوجود الطارئ، واعتماده الكلي على عوامل موجودة خارج كيانه ليدل دلالة واضحة لا تقبل الشك أو الجدل بأنه من المستحيل أن يكون هذا المخلوق هو صاحب ومالك هذه الصفات الظاهرة فيه... فإذا كان الأمر هكذا فهو أعجز من أن يهب الصفات الكاملة والزينة والجمال لمخلوقات مثله أو لمخلوقات أكبر منه.

ولكن الماديين ينظرون إلى نفس هذه الأمور نظرة مختلفة ومن زاوية مختلفة، ومع أنهم لا ينكرون النظام والدقة والتناغم في هذا الكون، إلا أنهم يريدون منا أن نؤمن أنه نشأ من حالة فوضى وتشوش نتيجة مصادفة عشوائية، وهم يطلبون منا أيضاً أن نؤمن أن الكون قائم على التفاعلات الميكانيكية للأسباب. ولكن هذه الأسباب... التي لا يعرف الماديون ماهيتها بشكل قاطع... هي نفسها مخلوقة وعاجزة وجاهلة وزائلة ودون هدف...

والماديون يرون أن هذه الأسباب هي التي أنتجت –وذلك من خلال القوانين التي ظهرت من العدم!!– كل مظاهر الدقة والتناغم والتوازن والنظام والجمال التي نراها من حوالينا.

وكما قام إبراهيم عليه السلام بتحطيم الأوثان والأصنام في المعبد، قام بديع الزمان بتحطيم هذه الأساطير والخرافات، فهو لا يدأب يذكر أنه ما دامت جميع الأشياء يرتبط بعضها مع البعض الآخر، فإن هذا يعني أن من أوجد البذرة هو الذي أوجد الزهرة وأنشأها، وبما أن أحدهما يرتبط بالآخر بعلاقات متداخلة فإن من أوجد الزهرة لا بد أنه هو الذي أوجد الشجرة وأنشأها، ونظرا لوجود علاقات متداخلة فإن من أوجد الشجرة لا بد أنه هو الذي أوجد الغابة وأنشأها... وهكذا إذن فإن القادر على خلق ذرة واحدة يجب أن يكون قادرا على خلق الكون بأجمعه، وهذا ما تعجز الأسباب عن القيام به ولا تطاله أبدا، ذلك لأن الأسباب عمياء وعاجزة وزائلة ومحتاجة وليس لها أي علم بحاجاتنا.

ويوما بعد يوم بدأ العديد من العلماء يدركون أن مساندة النظريات الميكانيكية القديمة لم تعد ممكنة، ذلك لأنه أمام هذا الجمال والروعة وهذا النظام والتناغم والاتساق، وأمام هذا التناظر ووجود الغاية والهدف فإن محاولة تفسير الخلق استنادا إلى فكرة المصادفة والسببية أصبحت –وبتسارع كبير– شيئا لا يمكن الدفاع عنه إلى درجة أن نوبات الهيستريا بدأت تنتاب بعض العلماء الذين بلغ بهم الحنق درجة كبيرة وهم يشاهدون تهاوي آلهتهم القديمة وتحطمها جذاذا.

يقول أحد علماء علم الحياة (البيولوجيا) –والبيولوجيا لا يزال من أكثر فروع العلم ميكانيكية– المشهورين:

– أليس من الغريب أنني كلما اكتشفت جمالا أكثر، وتناسقا أفضل في الكون ازددت قناعة بعبثيته؟!

لا يدرك هذا الرجل المسكين أنه إن كان كل شيء عبثا ودون معنى فإنه وحياته أيضا دون أي معنى.

ويؤكد أيضا عالم آخر مشهور – هل لي أن أقول عنه إنه سيئ السمعة؟– وهو بيولوجي أيضا، بأن وجود الكائنات ولا سيما ظاهرة الشكلPhenomenon of Form  لا يمكن عزوها أو إرجاعها إلى الحركة العشوائية للأسباب العاجزة والعمياء والتي لا تملك شيئا من العلم ومن المعرفة. وهو ليس العالم الوحيد الذي يفكر على هذا النحو، ولكنه أول عالم مشهور في العالم الغربي يصرح برأيه هذا بكل صراحة. والذي يلفت النظر أكثر من تصريحه هذا هو قوله أن الجو العلمي في العالم الغربي يشبه نمط إدارة الحكم في عهد بريجينيف.

إن النظرية الميكانيكية اليوم قوية ومسيطرة ومتنفذة في التفكير الغربي –ولا سيما في العلوم البيولوجية– إلى درجة أن جميع العلماء يجب أن ينحنوا أمامها ويستسلموا لها إن كانوا راغبين في الاحتفاظ بوظائفهم. وهم مضطرون إلى إعلان ولائهم وإخلاصهم لهذه النظرية أمام الملأ، بينما يهمسون بآرائهم الحقيقية في مجالسهم الخاصة، أي يضطرون إلى إدامة هذه التمثيلية وهذه اللعبة.

عندما طبع كتابه الذي هاجم فيه “السببية” وصفت مجلة “نيو ساينتست The New Scientist“ هذا الكتاب بأنه “كتاب يستحق الحرق”، ومنذ ذلك الحين عُدّ هذا الكاتب مؤلفا منبوذا، أي عد “سلمان رشدي” آخر، ولكن في عالم العلم في الغرب.

إن وجود مثل هذه الآراء المختلفة حول سريان أو عدم سريان نظرية الأسباب، والقول بصحة هذه النظرية يشير بوضوح إلى أن عزو قوة الخلق إلى الطبيعة، أو إلى القوانين الطبيعية ليس نتيجة حتمية وضرورية للبحث العلمي الموضوعي، بل هو نظرة شخصية لا أكثر ولا أقل.

ونظير هذا، فإن إنكار خالق الكون –الذي وضع الأسباب الظاهرة، وجعلها ستارا ليد قدرته– ليس نتيجة منطقية وعقلية، بل هو ميل ورغبة نفسية، والخلاصة أن إسناد الخلق للأسباب– أي النظرية السببية– ليس إلا لعبة وحيلة ماكرة وقحة أراد بها الإنسان أن يوزع ملك الخالق بين المخلوقين لعله يبقى المالك المطلق والحاكم لكل ما يملكه، والمالك المطلق لذاته.

ليس في نيتي القيام بتلخيص “رسائل النور” ولكني أريد أن أوضح أن هناك مسافة كبيرة بين مفهومي عن الله قبل قراءة رسائل النور وبين مفهومي الحالي عنه – سبحانه– بعد القراءة، فقد أصبحت مقتنعا بأنني عندما أقول: “لا إله إلاّ الله” فإني أكون قد قلت كل ما يجب قوله عن الله تعالى، لذا فإني مدين بالشيء الكثير لرسائل النور، لقد أصبحت الآن قادرا على فهم أن الله تعالى كان بالنسبة إليّ في السابق شيئاً ضروريا لتكملة الصورة، أو كان هو العامل والسبب غير المعروف الذي يجب وضعه في بداية الخلق لتجنب مشكلة التسلسل اللانهائي. كان بالنسبة لي سابقا “السبب الأول” أو “المحرك الأول”، أي إلها لملء الثغرات، أي شبيها بوضع “الملك الدستوري” لدى الإنكليز، يقدم له أعظم أنواع التوقير والاحترام، ولكن لا يسمح له بالتدخل في شؤون الحياة اليومية.

بينما تشير رسائل النور –التي أَخَذَتْ إلهامها من الآيات الكريمة– أن الكائنات (التي هي مرايا لأسماء وصفات الله تعالى) ترينا على الدوام وبأشكال وصور وهيئات مختلفة ومتغيرة أدلة تقودنا إلى المعرفة وإلى التصديق وإلى التسليم، ثم إلى المحبة وإلى العبودية، وهكذا ترينا رسائل النور أن هناك خطوات وعمليات محددة يجب إنجازها لكي يكون الإنسان مسلما بكل ما في هذه الكلمة من معنى... فمن التأمل إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى التصديق، ومن التصديق إلى الإيمان أو إلى الاعتقاد، ومن الاعتقاد إلى التسليم. وما دامت كل دقيقة جديدة، وكل يوم جديد يرينا جوانب جديدة وملامح جديدة من الحقيقة الإلهية فإن هذه العمليات تكون عمليات مستمرة ومتجددة، أي نستطيع القول بأن المظاهر الإسلامية الخارجية (أي أشكال العبادات) ثابتة بينما الإيمان في حركة... أي يزداد أو ينقص، وذلك حسب العمليات التي سبق وأن ذكرتها، لذا فإن علينا أن نركز اهتمامنا على حقيقة الإيمان... هذه الحقيقة التي ستتبعها حقيقة الإسلام.

لذا فإنني أستطيع أن أقول بأنني كنت مسلما ولكني لم أكن مؤمنا، وإن ما كنت أحسبه إيمانا لم يكن في الحقيقة إلا عدم القابلية على الإنكار، أي استحالة الإنكار عندي. ومع أن بديع الزمان لم يقدم لي الإسلام– وهذا عمل يستطيع أي شخص القيام به– إلا أنه قدم لي الإيمان... إيمان من خلال البحث والتمحيص وليس من خلال التقليد.

والآن دعونا نرجع إلى السؤال: ماذا نستطيع نحن المسلمين أن نقدم للغرب؟

والجواب: كل شيء... أو لا شيء.

فنحن نملك الإيمان والإسلام وهما كل شيء، ونحن نملك فهما وتفسيرا معينا للإسلام الذي هو في كثير من الأحيان لا يسمن ولا يغني من جوع.

أما بالنسبة للكتب التي عرفتني بالإسلام، ولا سيما الكتب التي كتبت مع أخذ الغرب بنظر الاعتبار فهي ليست إلا نوعا من التبادل الثقافي البريء... ولكن القضية المركزية الثابتة للإيمان إما أهملت تماما أو ذكرت هامشيا.

تكررت كلمة “الله” تعالى في القرآن الكريم (2500) مرة، بينما تكررت فيه كلمة “الإسلام” أقل من عشر مرات، غير أننا نرى أن هذه النسبة عكست في الكتب الإسلامية المعاصرة، ففي القرآن نرى أن النسبة بين الإيمان والإسلام هي (5/1) (خمسة مقابل واحد) وذلك لصالح الإيمان، بينما نرى أن النسبة بين الإيمان وبين الإسلام في عناوين الكتب الإسلامية المكتوبة باللغة العربية حتى أواخر القرن التاسع عشر هي (2/3) لصالح الإسلام. نرى أن هذه النسبة أصبحت في ستينيات هذا القرن (1/13) (أي 13 كتابا يبحث عن الإسلام مقابل كتاب واحد يبحث عن الإيمان) ولا شك أن هذه النسبة زادت في هذه الأيام. والنتيجة الحتمية لهذا هي أن التوجه نحو الغرب تركز في تقديم الإسلام بصفة نظام وبديل أيديولوجي، وتم هذا التقديم في الغالب دون الإشارة إلى حقائق الإيمان.

والسبب الآخر في عدم نجاحنا من الاقتراب من الغرب هو أننا أسأنا فهم الغرب. فالغرب ليس مجرد وجود سياسي وجغرافي Geopolitical Entity بل هو أيضا معنى ومجاز لأن الغرب كان من الناحية الجغرافية أول بلد شهد عصيانا وتمردا ضد الألوهية، وحسب علمنا فالمدنية الغربية المعاصرة هي المدنية الوحيدة التي لا تملك أي عقيدة دينية ظاهرية في قلبها، وهكذا فالغرب معنى ومجاز أو رمز لكسوف شمس العقيدة وخسوف الإيمان... رمز لإقصاء الإله. وبما أن هذا الإقصاء والكسوف لم يعد منحصرا في الغرب كموقع جغرافي، فإن الإنسان يستطيع أن يقول أنه أينما أقصيت حقائق الإيمان فالغرب موجود هناك. لذا يجب النظر إلى الغرب كحالة ذهنية خاصة وكمرض وكانحراف. ويشير بديع الزمان إلى أن السبب الأصلي والجذري لهذا هو “الأنانية” وعبادة النفس.

فمنذ عصر النهضة الأوروبية جعل إنسان الغرب نفسه المرجع والمصدر الوحيد له، والمركز الوحيد للكون حواليه، أي جعل نفسه القسطاس والميزان الوحيد لحياته البائسة، لقد حاول سرقة أردية الأسماء الحسنى لله تعالى، وحاول لبسها وتقديم نفسه كإله. ولكن هذه الأردية لم تناسبه، ولا يمكن أن تناسبه أبدا.

إن الإنسان الغربي الذي لا يتقبل فكرة أن وظيفته تنحصر في إظهار وتجلية (عكس) الصفات الإلهية باسم الخالق وحسب إرادته ورضاه سبحانه وتعالى... بدلا من هذا نراه يرغب في إعلان هذه الصفات وكأنها ملك له، ويصرف حياته كلها في محاولة إدخالها ضمن ملكيته المتخيلة المزعومة. وفي أثناء حياته يجره بحثه عن اللانهائي إلى منافسة حادة (بل مميتة في أحيان كثيرة) مع أبناء جنسه.

ومما يزيد من ضرام الرغبات اللانهائية للإنسان معرفته بأنه محدود وعاجز ومرتبط (أي غير مستقل)، وأنه سيضطر في يوم من الأيام إلى تسليم كل شيء حسبه وتخيله ملكا له، وأنه سيواجه الفناء والزوال، وبدلا من أن تقوده محدوديته ونقصه إلى تذكيره بعجزه وبفقره المطلق، فإنه يحاول التهرب والاختباء من هذه الحقيقة، وذلك بتنويم نفسه تنويما مغناطيسيا.

والإنسان الغربي الذي يحاول الهرب من الأفكار الحزينة حول مصيره النهائي نراه يروم خنق وإخماد ما وهب له وما ركز في فطرته من قابلية معرفة وحب خالقه وعلى الوصول إلى أنه بحد ذاته ليس بذي شيء، وإنه لا يملك شيئا.

إن المجتمع الغربي الدنيوي المنهمك في شؤونه الذاتية فقط مصمم ومنظم (في جميع مستوياته) لكي يعمي الإنسان ويستغفله، ولكي يخفي حقيقة واضحة وهي أن عقيدة الأنانية فشلت في تحقيق وعودها، وأن عقيدة التثليث الدنيوية وهي (التقدم بلا حدود... الحرية دون حدود... البهجة دون قيود) أصبحت دون معنى، مثلها في ذلك مثل عقيدة التثليث المسيحية التي نبذت قبل قرون، وكذلك ليخفي حقيقة أن مبدأ “الإنسانية الدنيوية” Humanism Secular (الذي يشكل التقدم الاقتصادي والعلمي قادته وروحه)، قد حول الغرب إلى أرض قاحلة من ناحية الروح، واتلف أجيالا بعد أجيال، وخربها وأفسدها.

ومع ذلك فإن هناك من بدأ يستيقظ ويدرك أنه كان يعيش في عالم من الوهم والخداع. إذن فمن الضروري أن يحذّر هؤلاء من مرض “أنا” وإنه من العبث أن نقول لمن ابتلي بهذا المرض أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو أفضل نظام، أو أن نقول له أن النظام الحقوقي والقانوني للإسلام هو أعدل نظام، لأنك لا تستطيع أن تشفي شخصا مصابا بمرض السرطان بأن تعطيه سترة جديدة، ولكنه يحتاج إلى تشخيص صائب وإلى عملية جراحية جذرية وأساسية، تعقبها معالجة ومداومة مستمرة، ورسائل النور تقدم كل هذه الأمور.

تتذكرون أني كنت قد صرفت النظر عن رسائل النور في السابق على أساس أنها كتب تصوف. وسمعت آخرين يصفونها هكذا أيضا، ولكن الحقيقة كانت شيئا آخر، ذلك لأنه ما من إبهام أو غموض في الاختيار البراق والواضح تماما الذي يضعه سعيد النورسي أمامنا: 

إما إيمان أو إنكار

إما سعادة أبدية أو شقاء أبدي 

إما خلاص أو هلاك 

إما جنة أو نار

وذلك في هذه الدنيا وفي الآخرة.

كما سمعت من وصف “رسائل النور” بالثورية، وأنا مع هذا الوصف ولكن ليس بالمفهوم السياسي للكلمة، فهذا غير موجود في رسائل النور، مع إنني متأكد تماما أنه لو قام بديع الزمان بالدعوى إلى استعمال العنف لاسقاط الحكومات العلمانية لأصبحت رسائل النور مطلوبة القراءة في جميع الجامعات الغريبة، ولأصبح اسم بديع الزمان اسما مألوفا في كل بيت في العالم الغربي. ذلك لأن الغرب يحمل ضعفا أمام مظاهر التشدد، ولا سيما عندما يتلون هذا التشدد بعقيدة دينية، وهل هناك أحسن أو أجمل أو أشهى في عيون الوسط الغربي من منظر ينقل إليهم من بلد بعيد منظر آلاف المسلمين الغاضبين الذين يصرخون: “الموت لأمريكا”، ويطالبون بالثورة وبالعودة إلى الشريعة؟... فالغرب لم يعد بحاجة لإزعاج نفسه حول كيفية تشويه صورة الإسلام، لأننا _نحن المسلمين– نفعل ذلك لهم، ولا يبقى لهم إلا مهمة القيام بتسجيل ذلك على الفلم بكل بساطة ثم عرضه.

وأنا أتذكر مظاهرة مماثلة شهدتها قبل أكثر من عشر سنوات في بلد يعرف فيه أمريكا بأنه “الشيطان الأكبر”، ولكن الذي أذهلني آنذاك أن أرى أن 70 % تقريبا من ذلك الزحام كانوا يلبسون الملابس من ماركة “لويز” كما أن أعقاب السجاير التي بقيت بعد انفضاض المظاهرة كانت إما من سجائر “مالبرو” أو “ونستون”، فكأن هناك يد تقطع (أو تتظاهر بالقطع) الأربطة التي تقيدنا مع الغرب، ويدا أخرى تشد هذه الأربطة وتقويها أكثر فأكثر.

ومع هذا فنحن لا نزال نقول:

لقد تكلمنا بما فيه الكفاية، وقد حان وقت العمل.

حتى إنني سمعت القول نفسه بخصوص رسائل النور، فقد قال أحدهم عنها:

إنها عبارة عن مجرد أقوال، إذ لا تجد فيها حركة.

ولكننا في الحقيقة لم نتكلم حتى الآن، كل ما عملناه هو أننا عولنا وندبنا وبكينا، ولأننا لم نتكلم، ولم يحدث أحدنا الآخر حديث أخ لأخيه، ومؤمن لمؤمن، ومسلم لمسلم، باسم الله وبلغة القرآن، وبلغة كتاب الخلق، فإننا عندما بدأنا بالعمل أخطأنا الطريق، وعملنا دون نظام ودون صلاحية ودون مقياس صحيح، أو مرجع صالح يتخذ إطار عمل. وهذا هو السبب في أننا في النهاية لم ننجح في الوصول إلى نتائج باقية ودائمة، والغرب يعلم هذا تمام العلم.

كلا... إن الثورية التي دافع عنها بديع الزمان ليست من نمط تلك الثوريات الصاخبة التي كانت تجوب شوارع طهران والقاهرة والجزائر. إن الثورية التي تصورتها رسائل النور هي ثورة في العقل وفي القلب وفي الروح، إنها ليست ثورة إسلامية، ولكنها ثورة إيمانية، وتعمل هذه الثورة في مستويين:

فهي مصممة أولا لكي تقود المسلمين من إيمان تقليدي إلى إيمان تحقيقي (أي قائم على التفكير والتأمل)، ثم لكي تغير المؤمنين وتحولهم من عبادة أنفسهم إلى عبادة الله، وهذا هو السبب في أن الذين يهيمنون على الغرب ويقودونه يخشون رسائل النور خشية كبيرة.

وختاما أود أن أقول ما يأتي:

بعد سنوات عديدة من البحث والمقارنة أستطيع أن أقول إن رسائل النور هي المؤلّف الإسلامي الوحيد الشامل والمكتفي بنفسه، والذي يرى الكون كما هو في الواقع، ويقدم حقائق الإيمان كما هي، ويفسر القرآن كما أراده نبينا صلى الله عليه وسلم، ويشخص الأمراض الحقيقية الماحقة التي ابتلي بها الإنسان، ويقدم له الدواء الناجع والشفاء.

إن مؤلَّفا مثل رسائل النور الذي يعكس نور القرآن، ويضيء الكون... مثل هذا المؤلف لا يمكن تجاهله أبدا، ذلك لأن الإسلام هو وحده الحائل والحاجز بين الإنسان وبين الكارثة، وأنا أعتقد أن مستقبل الإسلام يعتمد على رسائل النور وعلى الذين يتبعونها ويستلهمون من تعاليمها ودروسها.

               

[1] ، ترجمة: أورخان محمد علي A Revolution Of Belief .

[2] د. كولن تورنر، جامعة دورهام– انكلترة: ولد عام 1955 في مدينة برمنغهام في انكلترة. تشرف الانتساب إلى الإسلام عام 1975. أكمل تعليمه العالي في جامعة دورهام واختص باللغة العربية واللغة الفارسية. قدم فيما بعد رسالة دكتوراه في موضوع “الحركات السياسية والدينية في العهد الصفوي في ايران”. يدرّس حالياً في جامعة “مانشستر”. عكف على دارسة رسائل النور منذ عشر سنوات وهو متزوج واب لثلاثة أطفال. 

[3] المسؤول الأول في الاتحاد السوفياتي السابق.