ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
" ألاّ تسجُد" منصوب بنزع الخافض ، وكأنك تقول : ما منعك من أن
تسجد . و " لا " زائدة . وفي سورة ص " ما منعك أن تسجد ".
وقيل : ليست بزائدة ; فإن المنع فيه طرف من القول والدعاء ,
فكأنه قال : من دعاك إلى ألا تسجد ؟ كما تقول : قد أمرتك ألا تفعل كذا . وقيل : في
الكلام حذف , والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى ألا تسجد .
قال العلماء : الذي أحوج إبليسَ إلى ترك السجود هو الكبر والحسد
; وكان أضمر ذلك في نفسه إذا أمِر بذلك . وكان الله تعالى قد وصى أهل السماء
بالسجود لآدم قبل خلقه ، يقول الله تعالى : " إني خالقٌ بشرا من طين . فإذا سويته
ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " [ ص : 71 - 72 ] . وقوله إني خالقٌ بشراً غير
قوله : إني خالقُ بشرٍ. فمعنى الجملة الاولى انه سيخلق بشراً ومعنى الجملة الثانية
أنه خلق وأتم الخلق ، فافهم هذا وتدبّر.
فكأنّ إبليس دخله أمر عظيم من قوله " فقعوا له ساجدين " . فإن
في الوقوع توضيعَ الواقع وتشريفاً لمن وقع له ; فأضمر في نفسه ألا يسجد إذا أمره
الله بالسجود في ذلك الوقت . فأراد الله تعالى كشفَ خبيئته ليفضحه بين الملائكة ،
فلما نفخ فيه الروحَ وقعت الملائكة سُجَّدا , وبقي هو قائما بين أظهرهم ; فأظهر
بقيامه وترك السجود ما في ضميره . فقال الله تعالى : " ما منعك ألا تسجد " أي ما
منعك من الانقياد لأمري ; فأخرج سر ضميره فقال : " أنا خير منه
" .
إذ أمرتك
.ولا ننسَ أن ( إذ) ظرفيةٌ بمعنى حين.
فقد أمره الله تعالى مرتين بالسجود : مرة حين أخبره وأخبر الملائكة بضرورة السجود
لآدم حين يخلقه ، ومرة حين خلقه وأمر الجميع بالسجود له.فأبى إبليس في ضميره أولاً
وأبى في الثانية عملاً.
قال أنا خير منه
وكان رد إبليس – كما يقول القرطبي رحمه الله - : منعني من
السجود فضلي عليه ; فهذا من إبليس جواب على المعنى . كما تقول : لمن هذه الدار ؟
فيقول المخاطب : مالكها زيد . فليس هذا عين الجواب , بل هو كلام يرجع إلى معنى
الجواب .
خلقتني من نار وخلقته من طين
فرأى أن النار أشرف من الطين ; لعلوها وصعودها وخفتها , ولأنها
جوهر مضيء .
قال ابن عباس والحسن وابن سيرين : أول من قاس إبليسُ، فأخطأ
القياس . فمن قاس الدين برأيه قُرنَ مع إبليس .
قال ابن سيرين : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .
وقالت الحكماء : أخطأ عدو الله من حيث فضل النار على الطين ,
وإن كانا في درجة واحدة من حيث هما مخلوقان فإن الطين أفضل من النار من وجوه خمسةٍ
:
أحدها : أن من جوهر الطين الرزانة والسكون , والوقار والأناة ,
والحلم , والحياء , والصبر . وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي
سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع , فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية . ومن
جوهر النار الخفة , والطيش , والحدة , والارتفاع , والاضطراب . وذلك هو الداعي
لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ; فأورثه الهلاك والعذاب
واللعنة والشقاء ; قاله القفال .
الثاني : أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر , ولم ينطق
الخبر بأن في الجنة نارا وأن في النار ترابا .
الثالث : أن النار سبب العذاب , وهي عذاب الله لأعدائه ; وليس
التراب سببا للعذاب .
الرابع : أن الطين مُستغنٍ عن النار , والنار محتاجة إلى المكان
ومكانُها الترابُ .
الخامس , وهو أن التراب مسجد وطهور ; كما جاء في صحيح الحديث .
والنار تخويف وعذاب ; كما قال تعالى : " ذلك يخوف الله به عباده " [ الزمر : 16 ] .
وقال ابن عباس : كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه , وهو أول من قاس
برأيه . والقياس في مخالفة النص مردود .