الهجرة.. هروب.. أم إعداد واستعداد لعودة مظفرة
محمد السيد
قال تعالى: ((... فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب)) آل عمران: 195
لم يجزع المسلمون في مكة من فكرة مغادرة الوطن والأهل والمال، والهجرة من كل ذلك، فهم قد فهموا أنهم لا يفعلون ذلك هروباً، بل إن هجرتهم كانت بهدف تهيئة حاضنة آمنة للدعوة، ومنطلقاً للإعداد والاستعداد لنشر الإسلام وللفتح المبين، ودليل ذلك أنهم ما كادوا يستقرون في دار الهجرة (المدينة المنورة)، حتى أذن الله لهم بالقتال، ومناوشة كفار قريش واستعادة بعض ما فقدوه من متاع ومال ومعنويات: ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)) الحج:39. وهكذا فقد شكل الرسول صلى الله عليه وسلم السرايا المتحدية وسيّرها تجوب الأصقاع تحدياً للمشركين، ومن ثم فقد توجت تلك التحركات بغزوة بدر الكبرى، التي كانت أول نصر كبير مدوٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه؛ إذ حقق الله لهم من خلاله الهيبة والمكانة وبداية بناء الدولة، وأولى الخطوات نحو الفتح المبين ودخول الناس أفواجاً في الإسلام. وإذن فالهجرة ليست هروباً، وإنما هي امتحان جديد؛ فبعد الخروج من محنة التعذيب والقتل وإهدار الكرامة بالصبر والثبات، واختيار الحفاظ على الدين والإيمان وطاعة الله ورسوله على الوطن والأموال والأهل. جاءت الهجرة بامتحان جديد، فيه المعاناة من مفارقة الأوطان والأهل والمتاع، كما فيه المعاناة من الإعداد والاستعداد لعودة منتصرة إلى الوطن، والتربص بالعدو، والصبر على الأذى من كل ذلك ومن الحاجة والعوز، وتحمل أعباء القتال والجهاد ومنازلة الأعداء باقتدار وعلم، أخبرتهم به آية الله المتنزلة على قلب رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم مبشرة لهم بالمآل الذي أصبح يتمناه كل منتم للدين الجديد:((...فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب)). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضح خطط الهجرة وصورتها للأنصار في بيعة العقبة الثانية، وذلك في جوابه على أبي الهيثم بن التيهان؛ الذي قال مستوضحاً: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ( يعني اليهود)، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك (يعني البيعة على هجرة الرسول والمسلمين ومنع الأنصار لهم مما يمنعون منه (أزْرَهم) أي أهلهم، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا). فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم) من كتاب فقه السيرة النبوية، لمحمد سعيد رمضان البوطي ص122، دار الفكر سورية، نقلاً عن ابن إسحاق في السيرة.
إن الهجرة ليست راحة أونوماً وهروباً من الواجبات، بل هي تهيئة ومَدَد وإمداد وانطلاق جديد وأعباء وواجبات عظمى. إن الهجرة انقلاب في سير الحياة، يهيء حرية الحراك، ولكنه حراك متعلل بالخيارات المصيرية، رافعة الأهداف التي هاجر المهاجرون من أجلها، معبيئين بحلم جميل، يحدوه نصر وفتح مبين، وطقس هب شوقه من تسرب شعلة الإيمان، لا تفصله عن لحظة افتتاح لحظات النصر إلا مسافات من زمن ممتلئ بهموم العدة والإعداد: ((إنهم يرونه بعيداً* ونراه قريباً)) المعارج:6_7؛ فالحلم الذي تعبأت به القلوب، هيأت له الهجرة حاضنة صادقة آمنة متحركة، فاردة جناحيها فوق تراب المدينة لصنع دفء الحراك، وإقدام الأبطال، حيث تشرق شرارات النصر المضيء للآفاق القادمة بدم الشهداء وحداء النبي الكريم لصفوف النصر بكلمات الله .
وها نحن المسلمين اليوم، هاجرنا بديننا وبإيماننا في كثير من بلداننا؛ من مصر هاجرنا، ومن تونس هاجرنا، ومن فلسطين هاجرنا، ومن سورية هاجرنا، ومن ليبيا هاجرنا، واقتدى المهاجرون بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث كانت الهجرة لله ولرسوله، ولم تكن هروباً، بل عمل الجميع في فضاء الهجرة من أجل العودة المظفرة، وكذلك كان؛ إذ عاد الحراك الإسلامي في مصر من مهاجره إلى أرضه رافعاً رأسه، وعاد الحراك إلى تونس من مهاجره إلى أرضه في تونس مظفراً، وعاد مهاجرو ليبيا منتصرين، وها هو المهاجر السوري، الذي ظل يعمل في مهاجره على مدى عقود من أجل عودة كريمة مظفرة، وهو اليوم على أبوابها إن شاء الله؛ فالحلم الجميل يطلُّ عليه في مهاجره من ثورة اصطف بين فرسانها طوداً شامخاً عاملاً، على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإعداد والاستعداد، ومن ثم الانقضاض، منشداً مع الشاعر قوله:
تخبط قدم السفاح بأرض ما ألين تربتها/ ليست في الآن
وليست في الأمس/ وليست في الزمن الآتي/ يسأل طفل زرقاء:
في أي الأزمنة إذن تتحرك قدم السفاح؟ تصمت زرقاء
تنحدر دمعتها
تهمس في أذن الطفل:
هناك...
في عدم، في عدم، في عدم، في غابات، لا يرجع منها الموغل إلا مسخاً أعمى
تلفظه جلدته
ينساه ذووه ... وتنكره ألسنة الغرباء
للسفاح يد ثالثة، تحذف حرف الضاد.. من كتب الأطفال.. ومن زغردة النسوة، وتصادره من أغنيات الفلاحين
وإذن، فإن المهاجر العائد ثائراً يخطو على خطى نبيه منشداً نشيده، لن يتوقف حتى يقتلع السفاح من سورية مثلما اقتلع سفاح ليبيا ودجال تونس وطاغية مصر، وفي ذلك عبرة، كان مثلها من قبل. وهو ما فعل بالطغاة: (أبو جهل، وأبو لهب، وابن ربيعة وغيرهم)؛ إذ كان الفتح لهم بالمرصاد. وها هو الفتح يطل علينا في بلداننا من جديد، وفرحة شعب سورية قادمة إن شاء الله، قادمة: ((إنهم يرونه بعيداً* ونراه قريباً)).