النصر في ميزان الشرع
جمعة ( إن تنصروا الله ينصركم )
محمد علي الخطيب
في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة كانت حادثة " بئر معونة " ، وملخصها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث سبعين شاباً من الصحابة القراء إلى أهل نجد، ليعلموهم الإسلام، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، ثم بعثوا " حرام بن ملحان " أخا أم سليم ، بكتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى عدو الله عامر بن الطفيل ، فأعطوه أمانهم ، فبينما هو يبلغهم رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، إذ أومأ رئيسهم إلى رجل منهم فطعن حرام بن ملحان بالحربة من خلفه فطلعت الحربة من صدره، فتلقى (رضي الله عنه) دمه بكفه ثم نضحه على رأسه ووجهه، وقال : «الله أكبر.. فزت ورب الكعبة !» ، ثم مالوا على بقية أصحابه القراء فقتلوهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم إلا رجل واحد ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه : « إن إخوانكم قد قُتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا» ، فدعا النبي (صلى الله عليه وسلم) أربعين صباحا على قبائل " رعل وذكوان وبني لحيان وعصية " الذين عصوا الله ورسوله، ومن فضلاء الصحابة الذين قتلوا يوم بئر معونة " عامر بن فهيرة " مولى أبي بكر رضي الله عنهما، قتله جبار بن سلمى الكلابي، وأًثر عن عامر أنه قال أيضاً عند الشهادة : «فزت والله».
فزت ورب الكعبة!
هذا ملخص ما جرى في واقعة بئر معونة، وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما، ولست بصدد الكلام عنها.. لكني أتوقف عند قول حرام خال أنس لما قتل : «فزت ورب الكعبة» وكذلك عامر بن فهيرة، وكثيرون يسألون: كيف فاز وقد قتل؟ وحق لهم العجب والإنكار، لأن علمهم سطحي، لا يتجاوز ظاهر الأمر، ويغيب عنهم باطنه وعواقبه كما قال عز وجل : {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] ، بل إن قاتل عامر وهو جبار الكلابي عجب له أشد العجب، وقال في نفسه: ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟!
ويردد مقولة جبار اليوم كثير من الناس، ويقولون: كيف فازت حمص العدية وإدلب الذبيحة ودرعا المنكوبة وكفر عويد وغيرها ؟ كيف فازت ؟. ما فازت؟! أليس قد قتل منها وأصيب الآلاف، وأثخنت بالجراح، وقطعت الأطراف، وبقرت البطون، وقلعت العيون؟ ألم تهدم البيوت على ساكنيها؟ ألم تسو أحياء بالأرض حتى صارت أثراً بعد عين؟ ألم تقض عائلات نحبها لم ينج منها إلا طفل أو طفلة، أو لم ينج أحد؟ هل فازت خنساء جسر الشغور التي قدمت أولادها الخمسة ؟. هل فاز غياث مطر وإبراهيم القاشوش ؟. هل فازت كناكر وخسرت القرى من حولها التي ما تزال تغط في نوم عميق !؟. هل فازت كناكر التي قدمت أربعة عشر شهيداً من فلذات أكبادها وزهرة شبابها ، عدا عشرات الجرحى ومئات الأسرى والفارين والخائفين ؟. هل فاز ناصر عيسى وأحمد الأطرش وعبدو الأطرش وزياد النجاروعبدو منصور و وائل الجاهوش وباسل الحوري وهاني زينة ومحمد غزال وماجد المصري وحسين خريوش وأنس الجاهوش وبهاء عباس وأحمد قبار رحمهم الله ؟ . هل فازوا وقد قتلوا !؟ كيف ؟. الجواب في محكم الكتاب : {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]
ومن تدابير القدر اللطيفة أن جاء الجواب على لسان جبار بن سلمى نفسه، إذ سأل بعد واقعة بئر معونة:
ما «فزت» التي قالها عامر؟
قالوا له: الشهادة والجنة.
فقال: فاز لعمر الله.
ثم أسلم جبار بعد ذلك لذلك!
وإذا كان جبار قد أنعم الله عليه بنعمة الإسلام ونعمة الفقه في الدين وعلم الباطن والنظر في العواقب فإن بعض الكتاب والصحافيين والمثقفين وما يسمون بالمحللين السياسيين والعسكريين ما زالوا عاجزين عن الارتقاء إلى هذا العلم الحقيقي، لغفلتهم وذهولهم عن حقائق الأمور ومآلاتها، وعن سنن الحياة ونواميسها وارتباطاتها، فتضطرب لأجل ذلك موازينهم، وتختل مقاييسهم وتقديرهم للأمور، ويضلون عن الحقائق الكبرى في هذا الوجود، ولذلك يسألون: ما معنى «انتصرت» التي تتغنون بها؟ وكيف؟
أصحاب الفوز الكبير
وقصة حرام تذكرنا بقصة أصحاب الفوز الكبير الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة، وارتفعوا على فتنة النار والحريق كما ارتفع أهل حمص وإدلب والرستن وتلبيسة والبيضا وسواها : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } [البروج: 10، 11] وهو فوز كبير في ميزان الله لأن أصحاب الأخدود لم يتخلوا عن دينهم، وفوز باعتبار المآل والعاقبة والنجاة من عذاب النار في الآخرة وإن عذبوا بالحريق في الدنيا، فأين نار الدنيا من نار الآخرة؟ وأين حريق بشار الأسد وزبانيته من حريق جهنم في شدته أو في مدته؟ وبالمقابل أيضاً، أين متاع العاجلة وزينتها الزائلة عما قريب ، من جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ ولذلك فإن أكبر فوز كتبه الله لأهلنا في سورية - وهو فوز للأمة بأسرها- هو تمسكهم بحقوقهم وعدم إعطائهم الذلة لعدوهم، وبذلك رضي الله عنهم ورضوا عنه.
التجارة الرابحة
وأنتقل من الفوز الكبير في سورة البروج إلى الفوز العظيم في سورة الصف، وفيها يدعونا ربنا سبحانه إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة، ويستعمل القرآن لفظ التجارة المحبب إلى النفوس : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [الصف: 10 - 13] وهذه التجارة التي دلنا الله عليها وإن اقتضت النقص في المال والأنفس، وهي في اعتبار أهل الدنيا ونظر المحللين خسران مبين ، غير أنها في الميزان الشرعي تعتبر أربح تجارة، وهي كذلك حقاً، لأن المؤمن الذي يفقد حياته الدنيوية- وهي حياة قصيرة مهما طالت وهزيلة مهما انتفخت- ثم يعوض عنها بجنات عدن ومساكن طيبة، فإنه الفائز حقاً، وإنه لربح ضخم كبير أن يعطي المؤمن دنيا فانية ويأخذ الباقية، بل يجمع الله له بين لذة الدارين وسعادتهما، فهو وإن كان يطلب الآخرة الآجلة فإنه لا يحرم من لذة العاجلة ومتاعها القريب الذي تتعلق به النفوس، ولذلك وعدهم الله بها، فقال : {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [الصف: 13]
صور من التجارة مع الله
الربح الحقيقي
ولقد حددت سورة العصر الربح الحقيقي الذي غفل عنه كثير من أهل الدنيا، وتمثل في الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر : { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } .
فهذا هو طريق الربح وهذا منهجه {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26)، أما الخاسر الأكبر فهم الكافرون الذين خسروا أنفسهم، كما وصفهم الحق سبحانه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور: 39] .
مفهوم النصر في الإسلام
إن مفهوم النصر في الإسلام ومرادفاته القريبة كالفوز والربح والنجاة مفهوم متميز ومختلف عنه في مفهومات الآخرين ومقاييس أهل الدنيا، فليس منتصرا ذلك الذي يحرز المعونات والمساعدات وبعض المكاسب والأرباح الآنية ليتخلى بالمقابل عن حقه أو بعض حقه، بينما عدّ القرآن نهاية المؤمنين في قصة أصحاب الأخدود نصرا، وسماه الله تعالى الفوز الكبير رغم أنهم أحرقوا بالنار ذات الوقود! وعليه فإن القتل الذي يستحر بالمسلمين اليوم هنا وهناك وفي سوريا خاصة إذا ثبتوا معه على دينهم، وتمسكوا بحقوقهم، وعضوا عليها بالنواجذ هو في حساب الإسلام ومقاييسه نصر عزيز لا يضاهيه نصر وإن تأخر التحرير والتغيير أو ارتفعت تكاليفه في الأنفس والأموال.
وإن المرء المسلم لتأخذ الدهشة بلبه كل مأخذ حين يرى بعض من يملكون زمام الأمر قد يئسوا من نصر الله، وارتابت قلوبهم، يولون وجوههم قبل عدوهم، ليلتمسوا منه الحصول على بعض حقوقهم : {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ}! ألم يعلم هؤلاء أن الله تعالى نصر رسوله، وهو ثاني اثنين إذ هما في الغار؟ ألا فليعلموا أننا لم ننتصر يوماً بعدد ولا عدة- وإن كان إعداد العدة واجباً شرعيا- وإنما نصرنا بهذا الدين، وانظر إلى حال العرب اليوم وتأمل، لم ينتصروا في تاريخهم المعاصر في معركة قط، ولم يستردوا أرضاً، ولم يستعيدوا حقاً رغم كثرة جيوشهم، ورغم صنوف الأسلحة التي كدسوها وأنفقوا عليها الأموال الباهظة، وذلك لأننا أبعدنا الإسلام عن معركتنا، وابتغينا العزة بغيره، وخضناها معركة قومية أو وطنية وتحت مختلف الشعارات والرايات الجاهلية والعصبية، وفرقنا الأمة شذر مذر، وطلبنا النصر من غير مصدره فأذلنا الله وخذلنا، وما نزال نتجرع مرارة الهزائم التي تتوالى على الأمة شرقاً وغرباً، وما لم نرجع إلى ديننا، وننصر الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإن ما نزل بنا لن يرفع، بل لنرتقب ما هو أدهى وأمر، وقد قال الحق سبحانه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11] .
بقي أن نقرر أن محنة سوريا اليوم رغم بشاعة الطغيان وقبحه وشراسته ورغم ارتفاع التكاليف ، ستنقلب بفضل الله إلى منحة ونصر وفتح وبشرى بكل المقاييس والاعتبارات العسكرية والسياسية والإعلامية والمعنوية والأخلاقية ، لكني أنبه إلى أعظم وجوه النصر وأخطر معانيه، لأنه لم يعط حقه، وهو أن القافلة كلها كانت تخطو إلى تيه وعماء، وأن الرايات كلها كانت جاهلية عمياء ترتفع للباطل وتنتصر للباطل ليس فيها راية واحدة للحق، لكنها الآن وللمرة الأولى في تاريخنا المعاصر قد ارتفعت وامتازت، ووجدت الأمة التي تضامنت على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر الجميل والثبات العجيب الذي رأينا صوره وأخباره في كل بيت، وفي كلمات ومواقف الشيوخ والنساء والأطفال .