عامٌ الفتح (2011)
البراء كحيل
تتوالى الأيام وراء الأيام والأشهر وراء الأشهر وكذلك الأعوام وراء الأعوام , لا يكاد ييدأ عامٌ جديد حتى يلاحقه العام الذي يليه وكأننا في سباقٍ عظيم لا يسمح فيه الخصم لخصمه حتى بالتنفس ..
وهكذا كانت تمرّ الأعوام منذ ما يزيد على نصف قرنٍ على الأمّة العربية من غير تغيير أو تبديل , بل لعلّ الغالبية من هذه الأمَّة لا تشعر بدخول عامٍ جديد ..تشغلهم هموم الحياة ولقمة العيش والظلم الواقع على ظهورهم , ولذلك فحياتهم سيطر عليها الروتين المقيت وأصبحوا يعيشون في انتظار الموت .
خلال تلك الأعوام التي مضت على هذه الأمّة لم يكن للحياة فيها أي طعم وكانت عبارةً عن أداء واجبٍ لا أكثر ولا أقل .. فهم موجودون في هذه الحياة ومهمتهم أن يعمروها بالخيرات أو بالشرّ , لكنّك يمكن أن تقول أنّ عقرب الساعة لديهم قد توقف منذ ما يزيد عن خمسين عاماً وأصبح مرور الزمن لا يشكّل لهم أيّ معنى إلاّ الاقتراب من الدّار الآخرة والبعد عن هذه الحياة التي لا تعني لهم شيئاً ..
كلّ هذا النكد والغضب والضيق كانت تعيشه الغالبية العظمى من هذه الشعوب المغلوبة على أمرها والتي يمكن أن تطلق عليهم اسم "الأغلبية الصامتة" الراضية المقتنعة بنكد العيش وشظف الحياة والتي لا تفكّر مجرّد التفكير في تغيير واقعها أو العمل على الارتقاء إلى مستوى أفضل , وفي نفس الوقت كانت البقية من تلك الشعوب منقسمةً إلى قسمين : الأوّل وهم الفئة الحاكمة المتسلطة التي تتحكم في كلّ شيء وتحيا كأنّها لن تموت أبداً لا تأبه إلى صرخات الآخرين ولا تهتم بآلام المعذبين همّها الوحيد العيش والاستمتاع بكل ألوان الحياة , وهذه الفئة هي التي كانت سبب شقاء الفئة التي أطلقنا عليها اسم "الأغلبية الصامتة" , أمّا الفئة الأخيرة من هذه الشعوب فهم عبارةٌ عن قلّة قليلة غضبت على مجتمعها الخانع وأعلنت ثورتها على حكّامها الطغاة وما رضيت أن تحيا كالبهائم من غير قيمة ولا معنى ولا هدفٍ في هذه الحياة فثارت على الفئة الحاكمة مطالبةً بالتغيير وبالعدل والحرية وتوزيع الثروات على الجميع حتى يحيا الكلّ في رغدٍ وسعادة .. لكن للأسف قبل أن تُحارِبَ هذه الفئةُ السلطةَ الحاكمة حاربتْهَا تلك الأغلبيةُ الصامتة إمّا بصمتها القاتل أو بالتبرؤ ممّا أقدمت عليه بسبب الخوف والخنوع الذي كانت تعيش فيه .. فكان مصير هذه الفئة الثائرة السجن والقتل والتشريد والتهجير ..
وهكذا استمرت حكايتنا حتى أشرقت شمس عام الفتح (2011) , حيث انقلبت الموازين وتغيرت القوانين واستيقظت الهمم وارتفعت الكرامة وثار الغضب لأجل الحق ودُفن الخوف في مقبرة الظلام ...
عامٌ ليس كبقية الأعوام فيه نورٌ غريب وضوءٌ عجيب وشعاعٌ مبهرٌ , وقوده دماء الشهداء وناره صرخات المعتقلين فأحرق ذلك الوقود عروش الطغاة وأكلت تلك النّار الذلَّ الذي دام نصف قرنٍ , فتحولت هذه الأمّة الخانعة المستكينة الذليلة الراضية بالمهانة إلى أمّةٍ تموت فداءً للكرامة وشعارها "الموت ولا المذلة" بعد أن كان شعارها "مئة كلمة جبان ولا كلمة اللهمّ ارحمه" , أمّةٌ أصبحت مضرب المثل بالشجاعة والإقدام والفداء والعزّة , بعد أن كانت مضرب المثل بالذلّ والمهانة , كنّا في نظر الغرب والعالم أمّةً جاهلة لا قيمة لها ولا يُقام لها وزنٌ بين الأمم وشعوبها محتقرة بين الشعوب فغدونا بعام الفتح (2011) أعظم الأمم يقف لنا العالم اجلالاً وتعظيماً لتضحياتنا التي قدمناها في سبيل نيل حريتنا وكرامتنا ..
أصبحت ثوراتنا في عام الفتح علوماً تُدّرس في جامعات الغرب .. بصبرها بكفاحها وتضحيتها كما في أخلاقها العالية .. وضربت هذه الثورات عظيم المثل على جمال التعايش بين الطوائف المختلفة فيما بينها فقامت جميعها تصرخ في وجه الظالم الذي مابرح وما استكان وهو يخلق بين تلك الطوائف الفتن والحروب فتحولت من ضعفٍ إلى قوّة ومن بغضٍ وكره إلى حبٍ وود .. فسبحان من قلب الحياة رأساً على عقب ..
ولماذا عامُ الفتح ؟ لأنّه فتح القلوب والعقول والعيون والأفئدة والأفواه .. قبل أن يفتح قصور الطغاة بالنصر .. فتح القلوب حتى أصبحت محبّة فيما بينها متفانية في سبيل الغير تُقّدم الروح والمال في سبيل شريك الوطن بعد أن كانت تلك القلوب مغلقةً بالحقد والحسد والكره والبغض على كلّ من حولها ..والخوف من جلّادها
فتح هذا العام العقول التي كانت مغلقةً بأفكارٍ غرسها هذا الاحتلال الداخلي فيها .. الأفكار التي كانت تقول أنَّ الحاكم هو إلهٌ يُعبد على الأرض وقد تجوز معصية الخالق في السماء ولكنّها لا تجوز للإله على الأرض .. الأفكار التي كانت تقول نحن أمّة لا يحقُّ لها أن تقوم في وجه جلاّدها بل يجب الصبر والصبر حتى يأتي الله بفتحٍ من عنده ونسيت هذه العقول العفنة أنّ الله ينصر من ينصره ونسيت قول شاعرهم :
إذا الشعب يوماً أراد الحياة *** فلابدّ أن يستجيب القدر
في عام الفتح (2011) فُـتحت تلك العقول فأبصرت الحقيقة وعلمت أنّ الحالكم ليس إلهاً بل هو فرعونٌ يستحق الغرق كما كان سلفه في سابق الزمان .. وكان ذلك فأغرقته بطوفانٍ اسمه ثورات الحرية ..
وفي عام الفتح فتح الشعب العيون المغلقة فأبصرت النور الجميل الذي حُرمت منه على مدار نصف قرنٍ فرأت أنّ الكون جميلٌ وأنّ الحياة حلوةٌ تستحق العيش وأنّ الأرض خضراءٌ مزهرة .. نعم فتحت الشعوب تلك العيون فرأت كلّ هذا الجمال بعد أن كانت مغلقةً لا تبصر إلاّ الخراب والدمار والأرض الجرداء , تلك العيون التي كانت تشاهد فقط الوجه القبيح من الحياة حتى كرهت العيش فيها ..
عام الفتح الذي فتح الأفواه المغلقة منذ خمسين عاماً .. حتى كانوا يقولون لا يجرؤ الرجل على الكلام أمام زوجته ويبقى فمه مغلقاً حتى أمام أعزّ النّاس لديه .. فمٌ يعرف كيف يأكل فُتات طعام الظالم ولا يعرف كيف يلفظ كلمة "حرية" ظنّاً منه أنّه إذا لفظها فسوف يخسر لسانه ..
وجاء عام الفتح كي يصرخ الثائر في البلاد العربية بأعلى صوته في وجه ظالمه حتى يجعل في أذنيه صريراً يكاد رأسه ينفجر منه .. أصبح لهذه الشعوب اليوم أفواهٌ تُفضّل الكلام على الطعام فأنشدت أعذب الألحان لحن الحرية والسلام فشعرت حقاً أنّها من بني الإنسان ..
وهكذا كان عام 2011 عامَ الفتح والنصر فازت وانتصرت به الكثير من الشعوب وبقيت أخرى تنتظر فجر الحرية الذي رسمته في عام الفتح وقدّمت في سبيله الدماء والأشلاء والعذاب لكنّها بحقّ كانت تستعذب ذلك العذاب وتشعر أنّه فتحٌ ربّانيّ وما أجمله أن يتعذّب المرء في سبيل حريته وكرامته فيجد في ذلك حلاوةً عظيمة أجمل بكثير من شعوره بالذّل والعار وهو يطأطئ الرأس خانعاً لظالمه وإن كان آمناً على ظهره من الجلد وهذا مادفع ذلك الشهيد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ليقول : "يا الله ما أجمل هذا الشعور لأوّل مرّة أشعر بالحرية"
ما أجملك يا عام الفتح وما أعظم ما حدث فيك فقد فتحت أبواب الجنان لشعوبٍ كانت تعيش في حرّ جهنّم فأخرجتها من حضيض البؤس والحرمان والذل والعار إلى جميل الحياة وعظيم الكرامة وحلاوة الحرية
كان الفتح في عام 2011 والنصر سيكون بعون الله في عام 2012 لكي تكون الدول العربية الثائرة في أعلى سُلّم الترتيب العالمي على جميع الأصعدة ..