الداعي والمأدبة
أ.د. عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا } [الإسراء: 89]
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } [الروم: 58]
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الزمر: 27، 28]
{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } [الرعد: 17]
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 25]
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21]
(1) مَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ
قال البخاري في جامعه الصحيح:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ (يعني ابن هارون)، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، حَدَّثَنَا - أَوْ سَمِعْتُ - جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ^ وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ.
فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ.
فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ.
فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ ^، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا ^ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا ^ فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمُحَمَّدٌ ^ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ».
وفي رواية عند البخاري عَنْ جَابِرٍ t: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ^.
وأخرج الدارمي وغيره عن رَبِيعَةَ الْجُرَشِيَّ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ ^َ فَقِيلَ لَهُ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَلْيَعْقِلْ قَلْبُكَ، قَالَ: فَنَامَتْ عَيْنَايَ، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ، وَعَقَلَ قَلْبِي. قَالَ: فَقِيلَ لِي: سَيِّدٌ بَنَى دَارًا، فَصَنَعَ مَأْدُبَةً، وَأَرْسَلَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَطْعَمْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ. قَالَ: فَاللَّهُ: السَّيِّدُ، وَمُحَمَّدٌ: الدَّاعِي، وَالدَّارُ: الْإِسْلَامُ، وَالْمَأْدُبَةُ: الْجَنَّةُ».
1 - شرح المثل الوارد في الحديث:
نسخ الله الرسالات بالإسلام الذي بعث به خاتم أنبيائه سيدنا محمد ^، وجعله الدين الذي ارتضاه لعموم خلقه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، فلا يقبل من أحد أن يدين بغيره بعد ذلك ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، وفي هذا الحديث أرسل الله الملائكة للنبي ^ في منامه، تضرب مثلا له ولما بعثه الله به من الإسلام ولمواقف الناس منه وعواقب هذه المواقف، بملك كريم بنى دارا فخمة فارهة، وأعدَّ مأدبة عظيمة فيها ألوان الطعام الشهي الذي لا قِبَل لإنسان بإمساك النفس عنه، ثم أرسل رجلا مناديا بأمره في الناس وداعيا لهم إلى دخول دار الملك ليستحقوا رضا الملك الكريم، وحضور مأدبته والنَّيْل من هذا الطعام الرائع، فمن الناس من أجاب الدعوة ففاز برضا الملك، وسعد بدخول الدار، واستحق أن يتناول ما اشتهت نفسه من المأدبة، ومنهم من غفل أو استكبر عن الإجابة، فضيع الفرصة، واستحق سخط الملك، وباء بالحسرات.
ثم فسرت الملائكة هذه الحكاية التمثيلية للنبي ^: بأن الملك الباني هو الله تعالى، والدار هي الإسلام العظيم، والمأدبة هي الجنة التي لا يتوصل إليها إلا بالإسلام، والمرسَل بأمر الله هو سيدنا محمد ^ الذي أرسله ربه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ، وقال له ربه ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ [الأحزاب/45-47]، فمن أجابه إلى الحق الذي جاء به استحق رضوان الله وأنعم الله عليه بالجنة، ومن أعرض عنه وصد عمَّا جاء به استوجب سخط الله وعذاب النار وبئس المصير، ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى. وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 123 - 127]
2 - نوم الأنبياء ورؤاهم وحظ الصالحين من ذلك:
من آيات الله العجيبة أنه جعل النوم بالنسبة للبشر عموما راحة للأجساد والأعصاب من الإعياء والنصب، وانقطاعا عن الإدراك والتفكير، فقال تعالى ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ (النبأ:9)، لكن مما يتميز به الأنبياء أن نومهم راحة للأجساد، لا غفلة للقلوب ولا انقطاع للإدراك، لأن عيونَهم هي التي تنام، أما قلوبُهم فهي في يقظة دائمة، وقد تكرر في الحديث قول الملائكة: «إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ» للتأكيد علة هذه المنقبة العظيمة التي اختص بها الأنبياء، ولهذا لا تستطيع الشياطين أن تتلاعب بهم كما تتلاعب بغيرهم من الغافلين، وفي الحديث عند البخاري وغيره: «وَالنَّبِيُّ ^ نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ»، ولهذا فهم مخاطبون في منامهم كما هم مخاطبون في يقظتهم، قال عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ – كما عند البخاري - : «رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ» ثُمَّ قَرَأَ ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ (الصافات: ).
وسرُّ هذه اليقظة القلبية الدائمة: كثرةُ ذكرهم لله تعالى، بحيث لا يجد الشيطان مدخلا إلى هذه القلوب الذاكرة الطاهرة، ومن هنا كانت رؤى الصالحين الذاكرين صادقة، بل عدَّها النبي ^ جزءا من النبوة، فقد أخرج البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ^ قَالَ: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، وهي المبشرات الباقية بعد رسول الله ^، فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ^ يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ». قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» وعند أحمد بسند حسن قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ أَوْ تُرَى لَهُ».
لهذا تجد الصالحين يلتمسون الخير من الرؤى التي يرونها أو تُرَى لهم، وخصوصا في هذه الأزمان التي بين يدي الساعة، وقد أخرج الشيخان عن أبي هُرَيْرَةَ t قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ^: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، وفي رواية عند الطبراني: «وَأَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا».
3 – حضور القلب عند سماع العلم:
مَعْنَى«لِتَنَمْ عَيْنُكَ... إلخ»: لَا تَنْظُرْ بِعَيْنِكَ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تُصْغِ بِأُذُنِكَ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تُجْرِ شَيْئًا فِي قَلْبِكَ. أَيْ: كُنْ حَاضِرًا حُضُورًا تَامًّا لِتَفْهَمَ هَذَا الْمَثَلَ. ومعنى قَوْلِهِ: «فَنَامَتْ عيني... إلخ»: امْتَثَلَتْ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ.
وهذا أدبٌ عظيم من آداب التعلم، وتوجيهٌ كريم إلى ما ينبغي أن يكون عليه العاقل إذا عُرِض عليه ما يهمه خصوصا من أمر دينه، من الإنصات وعدم الانشغال بشيء في مجلس العلم، لأن الإنصات مقدمة الحفظ، وحسن الاستماع أول أبواب العلم، وعلى ذلك درج أصحاب رسول الله ^ الذين وصف علي بن أبي طالب t سيرتهم في مجالسته فقال: «إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا، لا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الحَدٍِيثَ ، وَمَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ، حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِهمْ» (أخرجه الترمذي في الشمائل).
وأخرج مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ^: «... وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ» وهي الخصومات والمنازعات واللغط وارتفاع الأصوات التي تمنع من الفهم والوعي وإدراك المطلوب.
4 – مُحَمَّدٌ ^ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ والإسلام هو مرجعية الأمة:
معنى هذه العبارة: محمد ٌ^ فَارِقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَبين الصَّالِحِ وَالْفَاسِقِ، وهو مرجع كل مسلم يريد النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فلا سبيلَ لنَيْل رضوان الله إلا باتباعه، ولا طريق إلى الجنة إلا بالسير على منهاجه، وهو ^ واقفٌ بالقرآن الكريم والسنة اللذين أوحاهما الله إليه، يدل الناس على طريق الجنة ويحجزهم عن أسباب الغواية والضلال، ولئن كان ^ قد فارق الدنيا إلى الرفيق الأعلى عز وجل فإن القرآن العظيم لا يزال غضا طريا كما نزل، وسنته ^ لا تزال محفوظة في صدور أهل العلم وفي كتبهم، فمن أجاب القرآن والسنة وامتثل لما فيهما من أوامر ونواهٍ؛ فقد عزَّ وسعد في الدنيا وفي الآخرة، ومن اتخذهما ظهريا واتبع هواه واستحل ما حرم الله عليه؛ فقد شقي وخسر خسرانا مبينا. وفي الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي بسند حسن عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ^ قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا، وَدَاعِي يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ.
والصَّرِاطُ: الإِسْلاَمُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللَّهِ فِى قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ».
وعلى هذا ينبغي الإيمان بأن «القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، ويُفهَم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف، ويُرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات».
ولا سبيل لاستجلاب حب الله إلا بالطاعة التامة والامتثال الكامل لما جاء به محمد ^، قال تعالى ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران/31، 32]، والآيات في وجوب طاعة رسول الله واتباع سنته ^ كثيرة.
أما الأحاديث في وجوب اتباعه ^ وبيان ألا سبيل لدخول الجنة إلا بذلك فأكثر من أن تحصى، ومنها حديث البخاري أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ^ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
وقد نفى الله الإيمان عمن لم يقبل بحكمه ^ ولم يستسلم له، فقال تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء/65] وأخرج البخاري عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ فِي شَرِيجٍ مِنَ الحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ^: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ»، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ^، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ»، وَاسْتَوْعَى النَّبِيُّ ^ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ حِينَ أَحْفَظَهُ الأَنْصَارِيُّ، كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسِبُ هَذِهِ الآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾.
أسال الله أن يجعلنا ممن اتبع رسول الله ^ على بصيرة وممن حمل رسالته علما وعملا وتطبيقا وممن استجاب لحكم الله ورسوله فحقت له السعادة في الدنيا والآخرة. إنه ولي كل توفيق والهادي لأقوم طريق.