من سُنن الله الصارمة

في أمور الدنيا والسياسة

حسن قاطرجي

من كَلِم النبوة العظيم هذا الحديث: "حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" وهو حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (2872 و6501) في كتاب الجهاد، باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الرّقائق، باب التواضع، والإمامان أبو داود (4802) والنسائي (6: 227): كلهم عن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه.

ولكلام النبوة هذا الكاشف عن سُنّة في أمور الدنيا وفي الحياة المادية والاجتماعية والسياسية اقتضت حكمةُ الله أن يجعلها من قوانين كَوْنِهِ وحياة عباده: سببٌ استدعى من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُفصح عن هذه السنّة تطييباً لخواطر وقلوب أصحابه، وهو أن أعرابياً سابَقَ على قَعوده ـ بفتح القاف وهو الإبل التي تُركب ويسابَقُ عليها ـ سابَقَ ناقةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ العَضْباء ـ التي كانت توصف أنها لا تسابَقُ فسَبَقَها! فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فأخبرهم عن هذه الحقيقة العظيمة صلوات الله وسلامه عليه.

فوائد عظيمة من هذا الحديث

الأولى: أن لا يعتدّ الناس بجاههم الدنيوي ولا بارتفاعهم المادي وخاصة أهل الدنيا وأهل الحكم منهم، فإنّ عِزَّ الدنيا لا يدوم لأن الله عزّ وجلّ يضعه بعد رفعه. وما نشاهده في أيامنا هذه من اتضاع عروش طغاة وذُل دهاقنة الاستبداد أعظم شاهد على ذلك. وما أعظم عِبَر التاريخ وما خبر (فرعون) الطاغية المجرم التي تكرَّرت قصّته في القرآن بغائب عن الأذهان!

الثانية: الحرص على التواضع كما نبّه عليه الإمام البخاري في عَنْوَنته للحديث في صحيحه، وكما استفاده الحافظ الكبير الإمام ابن حجر في شرحه للحديث في ((فتح الباري)) 6: 74 و11: 341، خاصة ما وقع في بعض طُرُق الحديث عند الإمام النسائي بلفظ: ((حق على الله أن لا يرفع شيءٌ نفسَه في الدنيا إلا وَضَعه))، ومن حِكَم الإمام المجتهد المفسر المؤرخ الطبري: في التواضع مصلحة الدين والدنيا.

الثالثة: التزهيد في الدنيا فلا ينبغي أن تكون محلّ جُلّ اهتمام المرء فهي متقلِّبة لا يدوم صَفْوُها ولا عِزُّها، قال العلاّمة المالكي ابن بَطّال ـ نقلاً من((فتح الباري)) 11: 341 ـ: في الحديث هَوَانُ الدنيا على الله والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وأنّ كل شيء هيّن عند الله فهو في محل الضّعَة.

الرابعة: قال الإمام ابن حجر: وفي الحديث حُسْنُ خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعُه وعظمتُه في صدور أصحابه.