التوبة بين الإثم والعمل الصالح
التوبة
بين الإثم والعمل الصالح
د.عدنان علي رضا النحوي
[email protected]
مع قوله سبحانه وتعالى :
( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )
[ الزمر :35]
من خصائص المؤمن أنه يحاسِب نفسه بصورة مستمرّة على أساس من الكتاب والسنة كما جاءا
باللغة العربية ، حتى إذا وجد من نفسه تقصيراً أو أنه أصاب إثماً أو وقع في خطأ
بادر إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى مع العزيمة أن لا يعود لذلك ، عسى الله أن
يغفر له ذنبه ، وعسى أن يعينه على التوبة النصوح . فإن ألمّ ثانية بعد ذلك بتقصير
أو ذنب أو خطأ فإنه يجدّد التوبة مع العزيمة أن لا يعود لذلك الإثم أو الذنب .
والله أعلم بحال عباده ، وبمن تاب مع العزيمة أن لا يعود لذنبه . فإذا عاد وأغواه
الشيطان فإن الله أعلم بحاله ووسعه ، فقد يغفر له إن شاء ، وهو الغفور الرحيم :
فعن أبي ذرّ رضي الله عنه عن النبي
r
قال : يقول الله تعالى : " من عمل حسنة فله عشر
أمثالها ، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر ، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني
لا يشرك بي شيئاً جعلتُ له مثلها مغفرة ، ومن اقترب إليَّ شبراً اقتربتُ إليه
ذراعاً ، ومن اقترب إليّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة
" [أحمد ، مسلم ، ابن ماجة]
(1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول
r
قال : " يقول الله تعالى : أنا عند ظنّ عبدي بي ،
وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في
ملأٍ خير منهم ، وإن تقرّب إليّ بشبر تقرّبت إليه ذراعاً ، وإن تقرّب إليّ ذراعاً
تقرّبت إليه باعاً ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة
" [ أحمد ، الشيخان ، الترمذي ، ابن ماجة ]
(2)
والأحاديث الشريفة الصحيحة عن التوبة والمغفرة كثيرة . ولكن كلها تشترط أولاً صدق
الإيمان بالله وعدم الشرك ، فإن الشرك يفسد التوبة ويذهب بالمغفرة ، وصدق الإيمان
بالله وعدم الشرك يعني أن يكون هذا يمثّل نهج حياة المسلم وخطّه الممتد الذي يسير
عليه ، ليكون الخطأ أو الإثم سقطات على الطريق الممتد ، لا تمثل نهج حياة ولا خطّاً
ممتداً .
وتدبَّرْ هذا الأسلوب القرآني في هذه الآية الكريمة التي نودّ أن نقف عندها لنتبيّن
المعنى الذي سقناه أعلاه :
( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )
[ الزمر :35]
والوقفة هنا عند التعبيرين الواردين في هذه الآية الكريمة:
أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ، بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ
فجاء في التعبير الأول فعل " عَمِلُوا "
، وفي التعبير الثاني : " كَانُوا يَعْمَلُونَ
" ! فما هو حقيقة الفرق بين هذين التعبيرين .
إن التعبير : بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ ، يوحي بأن عملهم كانوا عليه محافظين ، كانوا يعملونه بصورة
ممتدة ، وكأنه هو نهج حياة .
أما التعبير الأخـر : أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا
، فقد جاء الفعل هنا مغايراً للفعل الأخر . هنا جاء الفعل : " عملوا " ، والآخر : "
كانوا يعملون " ، فإن الفعل عملوا يوحي بأنها أعمـال متفرّقة لا تمثّل خطاً ولا نهج
حياة ولاهي ممتدة متصلة ، خلاف ما يوحي به التعبير :
بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
فالإنسان المؤمن الذي لا يحمل الشرك في قلبه يكون العمل الصالح نابعاً من
إيمانه ، ممتداً في حياته نهج حياة . ويكون العمل السيّئ سقطات منه لأن طبيعة
الإنسان كما خلقها الله تخطئ :
فعن أنس رضي الله عنه عن الرسول
r
قال :
" كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " [ أحمد ، الترمذي ، ابن ماجه
، الحاكم ]
(3)
وعن أبي الدرداء عن الرسول r
قال :
"كلُّ ذنبٍ عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركاً، أو قتل مؤمناً متعمداً"[أحمد،النسائي،الحاكم]
(4)
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
ۖ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
) [ النحل :97]
وهنا في هذه الآية الكريمة جاء الشرط الثابت الذي هو أساس العمل الصالح كله ، وهو
قوله سبحانه وتعالى:" وَهُوَ مُؤْمِنٌ
"! نعم ! "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ .." !
وكذلك جاء التعبير القرآني الآخر : "
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، ذلك لأن العمل الصالح المبنيّ على الإيمان في حياة المؤمن هو
نهج حياة وخط ممتد ، فجاء التعبير : " بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ، ولم يقل سبحانه وتعالى : " بأحسن ما عملوا
" .
وتتكَرّر هذه الصورة وهذا التعبير كذلك في سورة العنكبوت في قوله سبحانه وتعالى :
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [
العنكبوت :7]
وتمتدّ رحمة الله الواسعة في قوله سبحانه وتعالى :
( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) [ النساء :31]
( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا
ۚ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ . وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا
حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) [ الزمر : 53ـ59]
وتمتد الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لتبيّن لنا مدى رحمة الله بعباده ، ومغفرته
لهم، ما داموا على إيمان صادق نهج حياة . فيكفّر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ،
ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون . ويظل هذا التعبير القرآني المعجز شاملاً
جامعاً لأبواب الرحمة والمغفرة ، مبيّناً الأسس لذلك كله ، ألا وهي صدق الإيمان
والتوحيد ، وعدم وجود شرك في القلب .
هذه الرحمة الواسعة من الله سبحانه وتعالى والمغفرة الممتدة فضلاً منه ، لتحوط
المؤمن وهو ماضٍ في الحياة يحمل رسالة الله إلى الناس كما أُنزِلت على محمد
r
، يبلّغها لهم ويتعهدهم عليها ، حتى تكون كلمة الله هي العليا .
إن المؤمن على عهد مع الله سبحانه وتعالى ، وعليه أن يوفي بهذا العهد مع ربه ، ولا
يتم الوفاء إلا وهو ماض في حياته يوفي بعهد الله ، ومحور عهد الله تبليغ رسالة الله
كما أُنْزِلَتْ على محمد r
إلى الناس كافّة ، كلٌّ قدر وسعه الصادق الذي وهبه الله له ، ويتعهدهم عليها ،
تبليغاً وتعهّداً منهجيين ، ممتدّين مع الزمن حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وفي
هذه المسيرة يكفر الله عن عبده المؤمن أسوأ ما عمل ، ويجزيه أجره بأحسن ما كان يعمل
: " أسوأ ما عمل " سقطات في حياة المؤمن
لا تمثل نهج حياة ، و " أحسن ما كان يعمل
" تمثل نهج حياة ممتداً .
وهذه صفة المؤمنين المتقين الذين ينهضون لما أمرهم الله به عبادة له وطاعة ، فيغفر
الله لهم سقطات بدرت منهم ، وآثاماً وقعوا فيها وتابوا عنها ، إذا علم الله في
قلوبهم صدق الإيمان دون شرك . ولنتدبر هذه الآيات من سورة آل عمران تصف لنا المتقين
:
( وَسَارِعُـوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
ۗ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ
يَعْلَمُونَ . أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
ۚ
وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) [ آل عمران :136]
فهذه الآيات الكريمة تفصّل خصائص المتقين الذين يعملون ، ويمضون في الحياة
يحملون رسالة الله إلى الناس ، فيكون الإيمان والعمل الصالح هو نهج حياتهـم وخطتها
، وأما الزلل والخطأ والإثم فهو سقطات وأعمال لا تمثل نهج حياة . إنها سقطات عملوها
وتابوا عنها ، والعمل الصالح هو الذي كانوا يعملونه نهج حياة ، وتظل المفارقة بين
هذين التعبيرين :
الذي عملوا ، والذي كانوا يعملون ،
مفارقة جليّة أساسها صدق الإيمان والتوحيد دون شرك ، والعمل الممتد في الحياة
قياماً بالتكاليف الربانية .
ونجد أن الآيات الكريمة من سورة آل عمران التي عرضناها قبل قليل ، خُتِمت بقوله
سبحانه وتعالى :" ....
ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِينَ
"
حتى تتضح لنا الصورة كاملة : إيمان وتوحيد دون شرك "
وَهُوَ مُؤْمِنٌ " ، عمل في الحياة الدنيا
قياماً بالتكاليف الربانية : " كَانُوا يَعْمَلُونَ
... " ، توبة إلى الله سبحانه وتعالى مع الخطأ والإثم لتنقله
التوبة إلى العمل الصالح الممتد . إنها :
إيمانٌ لا شرك معه ،
عملٌ ممتد بالتكاليف الربانية ، ووفاءٌ بالعهد مع الله ،
توبةٌ صادقة إلى الله سبحانه وتعالى
(1)
صحيح الجامع الصغير وزيادته (8141) .
(2)
المصدر السابق : (8137) .
(3) المصدر السابق : (8141) .
(4) المصدر السابق : (4524) .