الدعوة بالعمل الخيري

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

 - يوم كان الناس ينعمون بدفء العلاقات الشرعية، كانت الدعوة بلون التذكير والوعظ فحسب، واتفق العلماء وقتها أن الدعوة من فروض الكفاية .

 ودار الزمان، لتنتشر الأهواء وتبث الشبهات، وليعتري المسلمين تنكب غير مسبوق ولا معهود للشرع الحنيف، فارتأت ثلة من العلماء أن بعضاً من فروض الكفاية بات من الضرورات، وبذلك تحولت إلى فروض الأعيان.

وممن قال بهذا الرأي الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله تعالى- في كتابه " الدعوة وأخلاق الدعاة" حيث قال:

[ فعند قلة الدعاة، وكثرة المنكرات، وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم، تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته] .

وعُرف مصطلح الدعاة، بأنهم ثلة من المسلمين المعاصرين معنية بنشر الإسلام، ومما تعنى به أيضاً هذه الثلة تحويل بعض آراء العلماء إلى آليات عمل، فهم بناة مجد الدين الجدد، بما يقدمون من جهود ترمي لهدف واحد هو إعادة حرارة الإيمان إلى خطوط القلوب والعقول .

والعمل الخيري قديم قدم الإنسان، وهومنفذٌ مُشرَعٌ إلى قلوب الناس بلا واسطة، حتى قال الشاعر:

 - أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم = لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

هذا العمل التطوعي يقوم أساساً على البذل دون مقابل، وفي عصر العولمة فإن هذا الهدف، وظف لغايات، وأضحى وسيلة تُفعل لتقريب الناس من فكرٍ معين أو غيره، فنلاحظ مثلاً المؤسسات التبشرية استغلته أيما استغلال، وبقيت الدعوة الإسلامية حتى عقود، متأخرة عن هذا التوظيف، ذلك أن العمل الخيري من الواجبات الإسلامية ويفعله المسلم تلقائياً ابتغاء الأجر والثواب، ثم نحا العمل التطوعي الإسلامي منحىً أكثر تخصصاً، وأصحبنا نرى ونسمع، عن مؤسسات إغاثية إسلامية، وبدأت الدعوة ودعاتها ترافق العمل التطوعي، وبدأت الدعوة بلسان الحال أكثر من المقال، وترك المجال للفعل أن يعبر عن الهدف، وكانت نتائج لا يستهان بها، أما أن تعمد ثلة من الدعاة بتخطيط مسبق لاستثمار العمل الخيري وفق رؤىً دعوية واضحة، فذلك يكتسب نوع من الجدة .

هذا ما رأيته وأحببت نقله من نطاق المحلية الضيقة، إلى فضاءات الشبكة العنكبوتية، بغرض تعميم المثال .

من مخالطتي لإخواني في اتحاد المنظمات الإسلامية فرع مرسليا، وقفت على تجربة دعوية متميزة، فقد رأيت كل يوم سبت ثلة من شباب المركز يحضرون الطعام بكميات كبيرة، ثم ينقلونه بسيارة خارج المركز، فدفعني الفضول لسؤال شيخ الدعاة عندهم الأخ الأستاذ عبد الفتاح الجبلي، عن هذا التطوع المتكرر، فأخبرني أنه إحدى الوسائل الدعوية لديهم، وتملكني العجب!، فقد رأيت من قبل إفطارات رمضانية وبعض الدعوات العامة، التي لم تكن تستثمر دعوياً إلا بأقل القليل، فطلبتُ منه مزيداً من الإيضاح، فقال: هي فكرة لأحد إخوانك من أعضاء المركز، لاقت استحسان الإدارة، ودلني عليه .

 بدايةً لاذ الأخ وراء ستر الإخلاص، فذكرته بالحديث النبوي الشريف بالدلالة على الخير وأجر الدلالة، فقبل أن يحدثني عن عمله، وأستهلّ كلامي بنبذة تعريفية عنه .

الأخ لزهر دَراجه، من أصل جزائري، نشأ في مدينة مرسليا الفرنسية، في العقد الرابع من العمر، رجل مكيث يحترف العمل في سمته العام أكثر من الكلام، انتظم في عضوية مركز مرسليا منذ التكوين والافتتاح، في القرن الماضي، ورأى أن دروب الدعوة مكتظة بالدعاة الوعاظ، والدعاة المدرسين، والدعاة الإدرايين، فنأى بنفسه من أن يكون مجرد رقم في الخانات السالفة، وأراد التقرب إلى الله بطريقة مبتكرة لخدمة الدعوة، فكر وقدر ونعمّا فكر وقدر، فاقترح على إخوانه فكرة استثمار العمل الخيري دعوياً، فأذنوا له، فأراد اختبار العمل التطوعي مع من يمارسونه قبل أن يضم إخوانه ويجرهم لعمل لم تستو فكرته على سوقها، فتطوع مع مؤسسات خيرية داخل فرنسة وخارجها، حتى إذا ملأ معطفيه خبرة وعلماً، وكان ذلك في عقد التسعينات من القرن الماضي تقدم لإخوانه بمشروعه، وبما أن إدارة الأخ عبد الفتاح الجبلي من الإدارات الدعوية غير النمطية، وتعشق التميز، وقفت بثقلها خلف مشروعه الوليد .

بدأ الأخ لزهر دَراجه عمله على نطاق ضيق بما توفر له من إمكانات، ثم عرض نفسه على أصحاب المال من التجار وغيرهم، محاولاً تأمين الدعم المادي، ويروي لي وهو يضحك نتفاً من رودود التجار بداية، وما لاقى من عنتٍ في سبيل ذلك، ثم أردف فأعان المولى ورضي بعض المحسنيين المساعدة في العمل، بتبرع عيني .

قلت: هل تقدمون الطعام فقط ؟ .

قال: الطعام، واللباس، وخدمات الترجمة المجانية لمن يحتاجها، والدلالة في مرسليا بأنواعها...الخ، وكل ما يحتاجه إنسان وصل إلينا أو وصلنا إليه .

قلت: كل إنسان ! .

قال: نعم نحن لا ننظر لعقيدة المحتاج هذا ما يمليه علينا ديننا .

قلت : هل كل عملكم خارج المركز ؟.

قال: تستطيع أن تقول جُلَّه .

قلت: هل هو عمل إنساني خيري، أم أن لكم فيه مآرب أخرى ؟ .

قال: أخي الكريم لا يمكن لداعية ينتسب للدعوة، ولا تكون حركاته وسكناته لخدمة دعوته .

قلت: كيف خططتم لاستثمار العمل الخيري للدعوة ؟ .

قال: أما المسلمون، فهو من وشائج الإخوة وواجب ديني، لا فضل لنا فيه البتة، لكننا نحـرص على التذكير بالالتزام .

قلت : كيف، هل أعددتم أنفسكم للوعظ مثلاً ؟ .

قال: الوعظ أسلوب شرعي له أهله، أما نحن مثلاً نعمل الجهد لربط الناس بالمركز، فلو أن محتاجاً لأمر ما، فالموعد في المركز، والتوقيت يستهدف وقت صلاة ما، فإن صلى معنا حمدنا الله في سِرنا، وإن لم يصلِ، قضينا حاجته أولاً، وعملنا على ربط نوع من العلاقات الشخصية ندعوه من خلالها، والحمد الله كسبنا الكثيرين وعادوا بحمد الله، بالنقاش الهادئ، والتشجيع، وإزالة الشبهات لدى أعداد غفيرة من المسلمين.

وفي منحى المسلمين، نحرص على تجديد فريق العمل الذي رأيتهم يعملون معي، وكل عام ثمة دماء جديدة، وبذلك نكوّنُ أطراً قيادية للدعوة عبر العمل الخيري، والإخوة أصحاب الخبرات السابقة، نحاول مساعدتهم بما نستطيع في أماكن أخرى ليتولوا العمل على عواتقهم .

قلت : وعملكم مع غير المسلمين ؟ .

قال: أكثر المحتاجين من غير المسلمين هم كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، حيث عادة الغربيين الانفضاض من حول من يقع من هؤلاء، وتركهم يتلقون مصيرهم وحدهم، مع مساعدات من الدولة هي في الغالب مادية، فيحتاجون الدعم المعنوي، فهؤلاء نتعهدهم بزيارات خاصة، ونظهر لهم نوعاً من الرأفة والتعاون، ويتعجب بعضٌ منهم من هذه الخدمات المجانية، فكل شيء في الغرب له مقابل مادي، وبعضهم يعرض علينا تقديم ثمنٍ لخدمتنا، فنخبرهم أننا مسلمون ونبتغي الأجر من الله وحده، وهذا هو ديننا، ثم من هذا المدخل نبدأ معهم بأسلوب دعوة غير المسلم المعروف لك طبعاً .

قلت : أود منك معرفة العلاقة العملية بين العمل الخيري والدعوة الإسلامية، كما تمارسها وفريق عملك ؟ ..

قال: سأوجز لك النقاط العملية التي نركز عليها :

أولاً : نحن من نذهب إلى الناس، فلا ننتظر مجيئهم إلينا .

ثانياً : نركز على تحرير النفوس من إلحاح الحاجة، وبذلك نحجز مساحة من الود للإسلام بما يفعله الدعاة، ثم نبني عليه، كما شرحت لك بداية .

ثالثاً: بالتعاون مع لجنة الدعوة ولجنة التربية ولجنة التخطيط في المركز، فإن المعلومات عن الشبهات والعوائق العملية تخضع لمناقشة الإخوة إدارة المركز، وهذا من فقه الواقع .

رابعاً :هدفنا مع المسلمين الالتزام العـام، وهو ربط أكبر عدد من المسلمين بالمسجد، أي مسجد من مساجد أهل السنة والجماعة .

خامساً: لدينا في الاتحاد خطة تبني الاندماج الإيجابي، ونحن جزء من المجتمع الفرنسي، الذي ضُللَ عبر قرون بأساطير وخرافات عن الإسلام فجزء من عملنا تصحيح الصورة عملياً ونظرياً .

قلت : سمعت بهذه العبارة كثيراً، ولم أقف على آلية عمل واضحة في ذلك، هلا أعطيتني مثلاً على ذلك ؟ .

قال: عندما نقدم مساعدة لغربي، عادة ما يكون معنا مصحف مترجم المعاني، ونستشهد بآية أوحديث نبوي، من ثم نريهم ذلك في الكتب، أن هذه هي تعاليم الإسلام .

الحديث مع أخي لزهر دَراجه ماتع، وبينما هو يحدثني قفز إلى ذهني قول الفاروق رضي الله عنه، وهو جالس مع ندمائه يوماً ما، فقال لهم: تمنوا، فأباح كل منهم بأمنية، فقال ابن الخطاب رضي الله عنه، أما أمنيتي، فلو أن الله رزقنا ملء هذا المكان كأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، أمـا العبد الفقير فتمنى على الله أن يرزق كل مركز إسلامي في الغرب مثل لزهر دَراجه .