الرحمة المهداة

الشيخ محمد الربابعة

محمّد صلى الله عليه وسلم

بقلم الأستاذ الشيخ محمد احمد حسن الربابعة

جامعة الإمام محمد بن سعود ، المملكة العربية السعودية

24 تشرين الثاني 2010م

******

يتعرضُ الإسلامُ اليومَ لهجمات جائرة هدفُها تشويه صورته ، وطمس حقيقته ، والنيل من مبادئه ؛ فقد رماه أعداؤه اليومَ من قوسٍ واحدة ، ووصفوه بأنه دين الإرهاب والعنف والهَرْج ، ولعبَ الإعلامُ الخبيثُ دوره في الصاق هذه التهم بالإسلام ؛ حيث اجتزأ الأحداثَ والمشاهدَ وألبسهما ثوبَ الإسلامِ زوراً وبهتاناً ، مع أنّ الإسلامَ منها بَرَاء .

فأصبح الإسلامُ اليومَ أحوج ما يكون إلى دعاة مخلصين يزيلون الحُجبَ عن وجهه المشرق ، ويحسنون عرض مبادئه ، ويشوّقون الناس إلى قواعده ، يبشِّرون ولا ينفِّرون ، ييسرون ولا يعسرون ، ويوضحون ولا يعقدّون .

وردا على المواقف المغرضة المتكررة من سفهاء الغرب الذين عمدوا إلى تصوير شخص إمام العالمين ورسول الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم بصور لا تليق بمقامه ولا بشرفه ومكانه ؛ فقد عزمت أنّ أكتب هذه الكلمات دفاعاً عن الإسلام ومبادئه ، وإظهاراً لرحمته وسماحته ، وإسهاما مني في الذود عن حمى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم , ليزداد الذين آمنوا إيماناً وحرصاً وتمسكاً بدينهم ، وليستبين غيرُهم حقيقة هذا الدين العظيم .

فالإسلام دين الرحمة، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة ؛ إذ هو هدية السماء إلى الأرض ، جاء مُخلِّصاً للبشرية كلِّها مما كانت ترزح تحته من وطأة الظلم والقهر ، ومما تعانيه من تيه وضياع .

يقول الفيلسون " بردنادشو " : " إنّي أُكِنّ كل تقدير لدين محمد لحيويته ، فهو الدين الوحيد الذي يبدو لي أنّ له طاقة هائلة ... و لقد درست حياة هذا الرجل العجيب ، وفي رأيي أنه يجب أنّ يُسَمّى منقذ البشرية " [1] .

ولقد خَلّد القرآنُ الكريمُ رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ] وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين [ [2] . فرسالة الإسلام رسالة رحمة ، جاءت لتأخذ بأيدي الناس كافة إلى الهداية الربانية . ثمّ جاءت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرةُ ، وأقوالهُ الفَذّةُ مترجمةً لهذه الآية ، ناطقة بعظمة مبعثه ، وشرف مقصده فهو القائل : " إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ " [3] ، وهو القائل : " إنما بعثني الله رحمةً للعالمين " [4] .

فرحمته صلى الله عليه وسلم لم تقتصر على قومه خاصةً ، بل كانت للناس كافة أصدقاء كانوا أم أعداء ، لا بَلْ تعدت أولئك كلهم لتشمل الجنّ ، والطير ، والحيوان ، وغيرهم .

ومن صور رحمته صلى الله عليه وسلم حرصه الشديد على هداية الناس إلى الإيمان ، فقد روي أنه بكى صلى الله عليه وسلم لجنازةٍ كافرةٍ مرّت به فلّما سُئل عن ذلك ، قال : نفس تفلتت منِّي إلى النار .

وقد كان  صلى الله عليه وسلم  تعتريه حالات من الهمّ والغمّ حزناً لتمنّع قومِه عن الإيمان ، حتى خاطبه اللهُ تعالى موجهاً له بترك التأسف عليهم ، والغمّ لهم ، فقال تعالى : ] فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إنّ لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً [ [5] .

وما أروع البيان القرآني حين يصوّر هذا الحرص النبويّ ، وضيقه صلى الله عليه وسلم لتمنعهم عن الإيمان بقوله " باخعٌ " ، فهي مفردةٌ استعيرت لتصوّر مبالغة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعظيم حرصه على هدايتهم ، حتى كاد يهلك نفسه غماً وحزناً .

والبعد اللغوي لهذه المفردة يحمل في طيّاته المبالغة والحرص الشديد . فالبخع قتل النفس غماً [6] ، والبِخاع عرقٌ في الصلب يجري في عَظْمِ الرقبة ، وبخع بالشاة بالغ في ذبحها حتى بلغ البخاع . [7]

ويقول الزمخشري – رحمة الله - : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجلٍ فارق أحبته فهو يتساقط حسراتٍ على آثارهم ... " . [8]

ومما يعزِّز هذا الفهم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قيل : يا رسول الله ادعُ على المشركين ، فقال : " إني لم أبعث لعَّاناً وإنَّما بُعثت رحمة " . [9]

وروي أيضاً أنه حين أحاط به الكفار في أحد ، وشُجّت وجنتاه ، وكُسرت رباعيته ، ودخل المغفرُ في رأسه ، أخذ يمسح الدم ويقول " اللهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " [10] .

وكلّما اشتدَّت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الشدائدُ والمحن ؛كانت رحمته تظهر أجلى وأعظم ، وقصته مع أهل الطائف شاهدةٌ على رحمته ، فقد سار إليهم يحثُّ الخُطا طمعاً في إيمانهم ، وحرصاً على إنقاذهم ، ولكنه صُدم بموقفهم تجاهه ، وضربِهم له ، فرجع متحسرا على حالهم .

وأما أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها فكانت تحاوره ، اذ قالت له يا رسولَ الله هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد ؟ فقال : " لقد لقيتُ من قومِكِ ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يا ليل ... [11] فلم يجبني، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب ... " . [12]

تُرى بأيّ شيء كان يفكر محمد صلى الله عليه وسلم وهو يخطّ بقدميه الشريفتين رمل الصحراء المتوّهج !! ، وما الهمّ الذي كان يحمله في ثنايا قلبه الرحيم ؟!! ، هل كان يفكر بمصلحةٍ دنيويّة فاتته ؟! أم كان يفكر بالانتقام من قوم آذوه وأغروا السفهاء به ؟! ما أراه كان يفكر إلاّ بهذه الرسالة ، وكيف حُرِمَ منها هؤلاء ، فانطلق مهموماً لها ، حزيناً عليهم .

ولو كان همّه الانتقام منهم لطلب إلى جبريل عليه الصلاة السلام أنْ يأمر مَلَك الجبال فيُطبق عليهم الأخشبين [13] ، ولكنّ قلبه الرحيم أنساه إساءتهم إليه ، فقال : " بل أرجو أنْ يُخرجَ اللهُ من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً . [14]

وتتجلى رحمته صلى الله عليه وسلم في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي عندما بعثه داعيةً لقومه ، فرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يائساً منهم ، وقال : يا رسول الله إنّ دوساً قد كفرت وأبت فادع الله عليها، فقيل : هلك دوسٌ ، فقال : " اللهمّ أهدِ دوساً وأئتِ بهم " . [15]

ومما يؤكِّد رحمة الإسلام بالناس ، وأنّ همَّ رسولهِ صلى الله عليه وسلم الأكبرَ هو هدايةُ الخلق ؛لا قتلهم وسفك دمائهم ؛كما يزعم المُغْرِضون ، كان مما نقله التاريخ من مآثره وهدية لمّا أراد فتح خيبر ، ودعا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، فأوصاه صلى الله عليه وسلم قائلاً : " على رِسْلِكَ حتى تنزل بساحتهم ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأنْ يُهدَي بك رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك من حُمْرِ النَّعَم " . [16]

ما أعظم هذه الوصية !، وما أحكمَ هذا التوجيه !، لا سيما وأنها جاءت في حالة تأهبٍ للقتال ، إذ السيوف مصلتة ، والأسنة مشرعةٌ ، فجاءت كلمته صلى الله عليه وسلم " على رِسْلِك " تستوقف علياً – كرّم الله وجهه – وتطلب إليه أنْ يتسلح بالحلم والرحمة ، والرفق والأناة ، مذكرةً إيّاه بأنْ مهمتك يا عليّ هداية الناس لا قتالهم .

إنها وصية لا ينطق بها إلاّ صاحب قلب كبير رحيم ، وصاحب خلق ومبدأ ودين ؛ ولا غَرْوَ في ذلك ولا عَجَب إذا كان الذي أوصى بها هو نبيُّ الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم القائل : " مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإيّاك والعنف والفحش " [17] .

والرفق بالخَلْق منهجٌ دعا إليه القرآن الكريم وأمر به ، ومن لطائف القرآن الكريم أنّ مفردة " وليتلطف " [18] توّسطت مفردات القرآن الكريم ، وحرف التاء الدال على المبالغة جاء وسطاً بين حروفها " ووسطاً في حروف القرآن عداً " . [19] ولعلّ في ذلك إشارة إلى وسطية الإسلام ، وقيامه على اللطف والرفق والرحمة .

ولم ينسَ نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وسلم الصبيانَ والنساءَ ، فإنهم أحوجُ إلى الرحمة والرفق ، ولذا أوصى بهم خيراً فقال : " استوصوا بالنساء خيراً " [20] ، وقال : " خياركم خياركم لنسائهم " [21] .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " . [22]

وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على إدخال السرور على الأطفال فكان إذا مَرّ بهم في الطريق هشّ لهم وبشّ ، وسَلّم عليهم ، وقَبّلهم وداعبهم . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر مداعبة الحسن والحسين وتقبيلهما ، وكان يركبهما على ظهره ، فقد روى جابر رضي الله عنه قال دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم : والحسن والحسين على ظهره وهو يقول نِعْمَ الجَمَلُ جملُكما . [23]

وقد رآه أعرابيٌّ يوماً يُقبّل الحسن والحسين ،  رضي الله عنهما وارضاهما  فتعجّب لذلك قائلاً : أتقبلون الصبيان ؟! إنّ لي عشرة فما قبلّت أحداً منهم ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أوأملك لك أنْ نزع اللهُ من قلبك الرحمة " . [24]

وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم خسارة مَنْ لم يتَّسَمْ بالرحمة فقال : " لا تُنزع الرحمة إلا من شقيّ " [25] .

ومن صور رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه كان يمازحُهم ويحرصُ أنْ لا يقطع عليهم متعة لعبهم ، ولا لذة فرحهم ، ولو كان ذلك منهم في وقت عبادته ، وقد ثبت من ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي فلّما سجد ارتقى الحسنُ أو الحسين على ظهره الشريف؛ فأطال سجوده ؛فلّما انصرف من صلاته تعجب الناسُ من طول سجدته فقال صلى الله عليه وسلم : " ابني ارتحلني؛ فكرهت أنْ أُعجِّلَه حتى يقضي حاجته " [26] ، وكذا كان يفعل مع أمامة بنت زينب ابنته صلى الله عليه وسلم ، " فكان يصلي وهو حاملٌ لها فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها " . [27]

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع بكاء َالأطفال في الصلاة خَفّف وتعجّل؛رحمةً بهم ودفعاً للحرج عن أمهاتهم .

قال صلى الله عليه وسلم : إنّي لأقوم إلى الصلاة ؛وأنا أريد أنْ أطوّل فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهة أنْ أشق على أمه " [28] .

وقد أثنى النبيّ صلى الله عليه وسلم على امرأة خيراً حينَ جاءته ومعها ابنان لها فأعطاها ثلاث تمرات فأعطت كلّ واحدٍ تمرةً فأكلاهما ثمّ جعلا ينظران إلى أمهما فشقت تمرتها بينهما فقال صلى الله عليه وسلم : " قد رحمها الله تعالى برحمتها ابنيها " [29] .

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه أوصى بهم فقال " ليس منا مَنْ لم يرحم صغيرنا " [30] .

وقد تجلّت رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال والنساء والضعفاء عندما كان يودع جيوشه الفاتحة موصياً لهم بقوله : " انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا ... " [31] ، وبهذا أوصى خلفاؤه رضي الله عنهم جيوش المسلمين من بعده أيضاً .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : وُجدت امرأةٌ مقتولةٌ في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان " [32] .

ومراعاة منه صلى الله عليه وسلم لعاطفة الأمومة فقد نهى عن أنْ يُفَرّق بين الأم وولدها ؛إذا وقعا في الأسر ، فقال صلى الله عليه وسلم محذراً من ذلك: " لعن الله مَنْ فرّق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وأخيه " [33] ، وقال أيضاً : " مَنْ فَرّق بين الوالدة وولدها فَرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " . [34]

وعلى منهجه صلى الله عليه وسلم سار صلاح الدين الايوبي رحمه الله ، اذ جاته امرأةٌ من الكفار تطلب إليه أنْ يرد إليها ولدها الصغيرَ ، فأمر بالبحث عنه ، فوجده قد بيِعَ مع السبي ، فاشتراه بماله الخاص ووهبه لها .

وفي هذه المواقف الحالكة والتي تغيب فيها الأخلاق عادةً ، وتتلاشى فيها عواطف الرحمة ، وتسيطر فيها نوازع الانتقام ، تتجلى سماحة الإسلام وتظهر رحمتهُ ، فيا ليت العابثين بأرواح الخلق والمفسدين في الأرض يستلهمون من هذه المواقف ولا يغمضون أعينهم عن هذه الحقائق .

وإلى جانب رحمة الإسلام بالإنسانية فإن رسالة الإسلام جاءت لترحم الطير والحيوان وكل ذي روح ، وقلب نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم لم يكن ليتسع للإنسانية وينسى أرواح المخلوقات الأخرى فهو القائل صلى الله عليه وسلم : " وفي كلّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ " . [35]

وقد بيّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ الإحسان إلى الحيوان من موجبات المغفرة وأسباب الرحمة الإلهية للمحسن وذكر لذلك شواهد منها " أن رجلاً كان يمشي فاشتدّ عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثمّ خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثَّرى من العَطَش فقال : لقد بَلَغَ هذا مثلُ الذي بَلَعَ بي فملأ خُفّه ثمّ أمسكه بفيهِ ثمّ رقَى فسقى الكلبَ فشكر الله له فغفَر له " . [36]

ومن روائع القصص التي ذكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضاً أنّ امرأةً بغيّاً رأت كلباً في يومٍ صارٍّ يُطيفُ ببئرٍ قد أدلعَ لسانَه من العطش فنزعت له بِمُوقِها[37] فغُفر لها " . [38]

ما أجمل هذه المشاهد التي تتنزل بها رحمة الله تعالى على الرحماء من خلقه ، وبتكرّم الله عليهم بمغفرته الواسعة شكراً منه لرحمتهم بخلقه ، وهذا ما أكده نبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم ويتكرم بقوله : " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السماء " . [39]

ومن روائع ما أُثر عنه صلى الله عليه وسلم في رحمة الحيوان أنه دخل حائطاً [40] لرجل من الأنصار فإذا جَمَلٌ فلّما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذرفت عيناه؛ فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فمَسحَ ذِفرَاه [41] فسكت فقال : مَنْ رَبّ هذا الجمل ، لمن هذا الجمل ؟ ، فجاء فتىً من الأنصار فقال لي يا رسول الله فقال : أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملّكك اللهُ إيّاها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه [42] [43].

ومن دلائل رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ما رُوي أنه مر على قدم صادوا ظبية فشدوها إلى عامود الفسطاط فقالت يا رسول الله إني وضعت ولي خشفان [44] فاستأذِنْ لي أن أرضعهما ثم أعود إليهم ، فقال أين صاحب هذه فقال القوم : نحن يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلوا عنها حتى تأتي ترضعهما وتأتي إليكم . قالوا ومن لنا بذلك يا رسول الله ، قال : أنا فأطلقوها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت إليهم فأوثقوها فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أين صاحب هذه . قالوا : هو ذا نحن يا رسول الله . قال : تبيعونها . قالوا : يا رسول الله هي لك ، فخلوا عنها فأطلقها فذهبت . [45]

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه طلب إلى عائشة رضي الله عنها أن ترفق بجملها وكان به صعوبّة فجعلت تردده [46] فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " عليك بالرفق فإنّ الرفق لا يكون في شيءٍ إلاّ زانه ولا ينزع من شي إلاّ شانه" . [47]

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تعذيب كلّ ذي روح كبر أو صغر، وسواء كان هذا التعذيب لجسده أم لروحه .

فمن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يُتخذ شيء فيه الروح غرضاً [48] فلا يرمى ذو روح بسهم ولا بحجر ولا بغيرها .

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه رأى قرية نَمْل ، قد حُرّقت بالنار، فقال مستنكراً : من حَرّق هذه ؟! إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا ربُّ النار . [49]

هذا إذا كان تعذيب ذي الروح من قبيل اللهو والعبث ، وأمّا إذا كان الذبح لمنفعة مرجوة فإن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قد أمر بالإحسان إلى الحيوان والرفق به فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته " . [50] وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : " من رحم ولو ذبيحة عصفورٍ رحمه الله يوم القيامة " . [51]

ومن عجائبِ ما روي أن صائداً صاد قمرية فذبحها وزوجها ينظر إليها فطار في الجو حتى كاد يختفي ثم ضم جناحيه وتكفن بهما وجعل رأسه مما يلي الأرض ونزل نزولاً له دوي إلى أن وقع عليها فمات حالاً . [52] ولهذا ورد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح حيوان بحضرة آخر .

فتأمل يا رعاك الله !هذه الصفحات المشرقة من تاريخ الإسلام، والمواقف المشرفة من حياة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فهي غيض من فيض الرحمة النبوية المهداة ، إنها رسائل رحمة ، ومبادئ رأفة أقر الإسلام قواعدها وحاز قصب السبق في تشريعها ، وغدت اليوم تشريعات سامية تنادت بها المنظمات الإنسانية .

                

[1] ماذا يقولون عن الإسلام ؟ ، محمد زينو ، ص 19 .

[2] سورة الأنبياء ، آية (107) .

[3] سنن الدرامي ، المقدمة ، حديث رقم (15) . حديث صحيح .

[4] سنن أبي داود ، كتاب السنة ، حديث رقم (4040) ، حديث صحيح .

[5] سورة الكهف ، آية (6) .

[6] المفردات ، الأصفهاني ، ص 48 .

[7] القاموس المحيط ، الفيروز آبادي ، ص 632 .

[8] الكشاف ، الزمخشري ، ج2 / ص 658 .

[9] صحيح مسلم ، كتاب البر والرحمة ، رقم (4704) .

[10] متفق عليه .

[11] من أكابر أهل الطائف من ثقيف .

[12] متفق عليه .

[13] الأخشبان : جبلان في مكة سُمياً بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما .

[14] متفق عليه .

[15] متفق عليه .

[16] متفق عليه .

[17] صحيح البخاري ، كتاب الأدب ، رقم (5570) . ومناسبة الحديث أنّ أناساً من اليهود مروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك يا أبا القاسم ، فردت عليهم عائشة : عليكم ولعنكم وغضب الله عليكم " .

[18] سورة الكهف ، من الآية (19) .

[19] انظر التحرير والتنوير ، ابن عاشور ، ج 15/ ص 285 .

[20] متفق عليه ، وزاد الترمذي : " فإنما هن عوان عندكم " .

[21] سنن ابن ماجه ، كتاب النكاح ، رقم (1968) .

[22] صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، رقم (4280) .

[23] رواه الطبراني في المعجم الكبير ، رقم (2661) .

[24] أصل الحديث متفق عليه .

[25] سنن الترمذي ، كتاب البر والصلة ، رقم (1846) ، حديث حسن .

[26] سنن النسائي ، كتاب التطبيق ، حديث رقم (1129) . حديث صحيح .

[27] متفق عليه ، وجاء أنه كان يحملها على عاتقه أو عنقه .

[28] صحيح البخاري ، كتاب الأذان ، رقم (821) .

[29] رواه الطبراني في المعجم الكبير ، رقم (2715) ،والحديث صحيح .

[30] سنن الترمذي ، كتاب البر والصلة ، رقم (1844) ، حديث صحيح .

[31] سنن أبي داود ، كتاب الجهاد ، رقم (2247) .

[32] متفق عليه .

[33] سنن ابن ماجه ، كتاب التجارات ، رقم (2241) .

[34] سنن الترمذي ، كتاب البيوع ، رقم (1204) .

[35] صحيح مسلم ، كتاب السلام ، رقم (4162)، والمقصود كل حي ، ونسمي الحيّ ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده.

[36] متفق عليه .

[37] الموق : الخف، وقيل : ما يُلبس فوق الخوف .

[38] متفق عليه .

[39] سنن الترمذي ، كتاب البر والصلة ، رقم (1847) ، حديث حسن صحيح .

[40] أي سباتاً .

[41] الذفرى من البعير مؤخر رأسه .

[42] تدئبه : تكرهه وتتعبه .

[43] سنن أبي داوود، كتاب الجهاد ، رقم (2186) حديث صحيح .

[44] الخشف : ابن الغزال .

[45] رواه الطبراني في المعجم الأوسط . رقم (5547) .

[46] أي تروضه ، وفي رواية الإمام أحمد ( فجعلت أضربه ) .

[47] صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة، رقم (4698) .

[48] صحيح مسلم، كتاب الصبر والذبائح، رقم (1395) .

[49] سنن أب داود، كتاب الأدب، رقم (4584) حديث صحيح .

[50] صحيح مسلم ، كتاب الصيد والذباح ، رقم (3615) .

[51] حديث حسن .

[52] فيض القدير ، المناوي ، ج 6 ، ص 360 . ورجاله ثقات.