بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد
بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد
م. محمد عادل فارس
تعبَّدَنا الله تعالى بمعرفته وتوحيده وطاعته... وهذه هي العبادة، وهذه هي التقوى، فلقد بعث الله تعالى رسله إلى أقوامهم يدعونهم إلى عبادته لعلهم يتقون. وفي مطالع سورة البقرة نقرأ قوله: }يأيها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين قبلكم لعلكم تتقون{.
وأول التقوى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك، ثم القيام بالفرائض واجتناب المحرمات، ثم الإكثار من النوافل وترك الشبهات...
والمسلم حريص على أن يتحلى وينال رضوان الله وجنته، لكنه كذلك عبد ضعيف، لا ينفكّ عنه التقصير في واجب، والوقوع في محظور، وما عليه إلا أن يقوّي إيمانه، ويكثر من ذكر الله تعالى بقلبه وفكره ولسانه، فيكون هذا حافزاً له على المزيد من الطاعات، وقوة على التماسك أمام الشهوات، والبعد عن المعاصي والآثام. وكلما فَرَطَ منه تقصير فليستغفر وليتُب.
ومما يُعين السالك في طريق الهدى، على النجاة والنجاح، أن يعرف مكانة كل عبادة، وأهمية كل واجب، وإثم كل مخالفة... حتى يزيد اهتمامه بالأوجب فالأوجب، ويزيد احترازه من الكبائر قبل الصغائر...
ومن الآفات التي أصابت كثيراً من المسلمين الذين يبدو أنهم أقرب للصلاح، أن يهتموا بحقوق الله تعالى ويتهاونوا بحقوق العباد. فترى الواحد منهم يكثر من الصلاة والصيام والحج والعمرة والأذكار... لكنه لا يتورّع عن سخرية بأحد إخوانه، أو غيبةٍ له، أو أكل ماله، أو مماطلة في تسديد قرض... وقد يرى نفسه على خير وهدى وسداد: أليس يؤدي نوافل العبادات فضلاً عن فرائضها؟! وينسى أن حق العبد أولى بالرعاية، لأن كل حق للعبد له جانب من حق الله تعالى، ولأن تعامل العبيد مبني على المشاحّة والحاجة والاضطرار... أما حق الله فإمكان المغفرة فيه أوسع لأن الله تعالى كريم ودود غفور رحيم. وقد لحظ الإمام سفيان الثوري هذا المعنى فقال: "لأن تلقى الله بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد".
وإن الحفاظ على حق أخيك من أهم مقتضيات الإيمان، ومن ثمرات الشعور بالأخوّة في الله. ويكفي أن نذكر ثلاثة من أحاديث النبي r في هذا المقام:
روى مسلم عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: "أتدرون مَنِ المفلس؟" قالوا: المفلس فينا مَنْ لا درهمَ له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا!. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيَتْ حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار".
وروى مسلم أيضاً أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيتَ إن قُتِلْتُ في سبيل الله، تكفَّرُ عني خطاياي؟ فقال له رسول الله r: "نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مُقبِل غير مدبر"... ثم قالr : "إلا الدَّين، فإن جبريل قال لي ذلك".
والحديثان المذكوران يبينان أن الصلاة والصيام والزكاة والشهادة في سبيل الله... قد لا تقِفُ أمام حقوق العباد!.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله r: "لا تحاسدوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغضُوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يَحْقِرُه ولا يخذُله. التقوى ههنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".
فلْيَسْلَمْ منك المسلمون
ذكر الإمام ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" عند ترجمة قاضي البصرة، الذي يُضرب بذكائه المثل: إياس بن معاوية المُزَنِي (46- 122هـ)، عن أحد تلامذته أنه قال: ذكرتُ رجلاً من المسلمين بسوء عند القاضي إياس، فنظر فيّ وقال: أغزوتَ الرّوم؟ قلتُ: لا. قال: قال: أغزوتَ السّند والتُّرك؟ قلتُ: لا. قال: أفَيَسْلَمُ منك الروم والسند والتّرك، ولا يَسْلَم منك أخوك المسلم؟.
إنها لفتة تربوية كريمة، تذكرنا بهدي النبوة أوّلاً، وبواقع المسلمين اليوم ثانياً.
أما هدي النبوة فذلك قول النبي r: "المُسلم من سَلِمَ المُسلمون من لسانه ويده". رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي. فأنت ترى أنّ سلامة المسلمين من لسان أخيهم ويده، وَصْف لازمٌ لأخيهم هذا، لا يكاد من دونه يستحق اسم المسلم، أو يتحقق فيه الانتماء إلى الإسلام.
ولا عجب، فالمسلمون المؤمنون كالجسد الواحد، وكيف يبغي بعضُ هذا الجسد على بعض؟ وكيف يعتدي عضوٌ منه على عضو آخر؟!، وإنّ أي اعتداء على المسلم حرام، وكما قال رسول الله r: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله. حَسْبُ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم". رواه أبو داود والترمذي.
وإذا تأملت في قول الله تعالى: }ولا يَغْتَبْ بعضُكم بعضاً{ (الحجرات: 12) – والغيبة اعتداء على سُمعة المسلم، أي عِرضه – وجدت التعبير عجيباً في الدلالة على ارتباط المسلمين ووحدتهم وانتمائهم إلى جسد واحد، فالذي يغتاب أحداً من المسلمين إنما يغتاب بعضه!.
وأوضَحُ من هذا، أنّ الله تعالى عندما نهى عن "اللمز"، وهو الطعن باللسان، والإشارة بالعين ونحوه، قال: }ولا تَلْمزُوا أنفُسَكم{. (الحجرات: 11). قال المفسرون: "أي لا يَعِبْ بعضكم بعضاً، فإن المؤمنين كنفسٍ واحدة، فمتى عاب المؤمن مؤمناً فكأنما عاب نفسه".
وأما واقع المسلمين فانظر إليهم في مشارق الأرض ومغاربها، ابدأ ببلدك، وانتقل ببصرك إلى أيّ جهة شئت، لتجد الحروب تُشَنُّ على المسلمين ألواناً، بدءاً من حرب الإشاعة والتضليل والتزييف، إلى حرب الإغراء وغرس العملاء وشراء الذمم، إلى إقصاء الشريعة عن ميادين الحياة ونشاطاتها، ووصولاً إلى التجويع والحصار والسجن والتشريد واستباحة الأعراض والأموال وإزهاق الأرواح والذبح بالسكين والقتل بالرصاص...
فإذا تململ الموجوع، أو تضجّر المظلوم، أو رفع المقهور صوته في وجه الطاغية، أو مدّ يداً ليدفع السكين عن عنقه... كان ذلك جُرماً يحاسَب عليه، وجناية تقتضي المزيد من الاضطهاد له، وكان أصولياً متطرّفاً، وإرهابياً متعطّشاً للدماء، ورجعياً واستعمارياً و...
وحقيق بهذه المحنة التي شمِلَت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وتغلغلت في أنحاء المجتمع وزواياه، أن توحّد قلوب المسلمين، وتجمعها على قلب واحد، وتُعيدها إلى الله تعالى، وتُحيي فيها التقوى، وتُثير فيها معاني الحب والرحمة والرأفة، وتجعلها تتمثّل قول الله تعالى في وصف عباده المَرْضيين: }أشدَّاء على الكُفّار رحماء بينهم{. (الفتح: 29). وقوله: }أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين{. (المائدة: 54).
لذلك يبدو شأن كثير من المسلمين غريباً كئيباً: يعتدي بعضهم على بعض في ماله أو نفسه، ويتسقّطون زلات بعضهم بعضاً، ويتتبعون عوراتهم، ويُسيئون الظنّ بهم، ويَسْلُقونهم بألسنة حِداد، ويجهدون في كيدهم وحربهم، ويُسوّغون كل أسباب الخلاف والشقاق والخصومة معهم... ويَدَعون العدوّ يَنْهَش فيهم، ويسطو على الأرض والعرض، ويُهلك الحرث والنسل.
أيسلم الأعداء من يد المسلم ولسانه، ولا يسلم المسلمون؟!