من بداية تغيير الأنفس

د. خالد أحمد الشنتوت

الخروج من الأنانية

د. خالد أحمد الشنتوت *

[email protected]

(إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )

ومن بداية تغيير الأنفس أن نخرج من أنانيتنا لنكون أكثر غيريـة أو خيّرين، والأنانية مرحلة نفسية ضرورية للطفل، الذي يظن أن الله عزوجل خلق أمه وأباه وبيتهم وإخوانه وكل مايراه ؛ خلقه من أجله هو، لذلك لا يريد أن يشاركه أحد في أمه أو أبيه أو لعبه ...إلخ ...وهذه المرحلة تكون على أشدها في المهد الذي ينتهي في السنة الثانية، ثم تبدأ مرحلة الطفولة المبكرة، فتبدأ الأنانية بالتناقص تدريجياً، حتى يأتي وقت يطلب الطفل من الآخرين أن يلعبوا معه، ويسـره اللعب مع الآخرين أكثر من اللعب منفرداً ...

ويبدو لي أن جزءاً كبيراً من تخلفنا يعود إلى عشعشة الأنانية في نفوسنا، وظهورها في سلوكنا، ومن مظاهر الأنانية في سلوكنا الفردية في سلوك الكثيرين منا، مما يفسد العمل الجماعي، ومن مظاهرها إقبالنا الشديد على الدنيا، حتى أن أكثرنا يعمل بضع عشرة ساعة في اليوم، ولايجد ساعة في الأسبوع يخصصها لزيارة إخوانه أو لقائهم، وينفق راتبه ودخله على مصروفه ومصروف أسرته، ولايجد (2%) فقط من دخله؛ يدفعها في سبيل الله عزوجل ... وأذكر هذا المثل، وهو أنني كلفت من بعض الفضلاء بنقل مساعدة مالية إلى أحد الأخوة بناء على طلبه بل إلحاحه، ولما دخلت بيتـه لأدفع له المبلغ الأمانة، وجدت فـرش بيتـه وأثاثـه أفضل من فرش بيوت الأخوة الأفاضل الذين أرسلوا له تلك المساعدة ( وطبعاً أفضل من بيتي بكثير) .... هذا هو الوهن وهو حب الدنيا وكراهية الموت .

الموضوعية ضد الأنانية :

أما في عالم الرشد الذي يبدأ بعد المراهقة ( ولنقل في زماننا بعد العشرين ) فالمفروض في عالم الرشـد أننا تخلصنا من الأنانية ...لكن ما نلاحظه في الواقع أن الشعور بالأنانية يستمر، وقد يستمر حتى الممات، وهذا يعني تشوهاً في الشخصية، ويجب علينا ( تغييـر) مثل هذه الشخصية التي لم تتخلص من الأنانية وهي في الرشـد ....

الأصل في الرشـد أن يكون الإنسان الراشد موضوعياً ( وهنا الموضوعية عكس الأنانية )، فالراشـد يعرف ويعترف أمام الآخرين ( بصدق وليس مداهنة ) يعترف أن فلاناً أفقـه منه في العلم الفلاني، بل أذكر أنني بعد تخرجي من الفلسفة (1968) في ذلك الصيف زرت الأخ الداعية الحاج خالد الحســـون ( من السلمية وهو الآن في جدة، وهو الشقيق الأكبر للدكتور عادل حسون ( الجزائري) يرحمه الله)، وسهرت معه ليلة مملوءة بالعصف الذهني – كما يحلو للأخوة اليوم – وفي نهاية السهرة قلت لبعض الأخوة الحاج خالد يفهم في الفلسفة أكثر مني ( والحاج خالد أظن شهادته ثانوية أو أقل ) ...وكررت ذلك عدة مرات أمام الأخوة لأنني أراها حقيقة ...

الشعور والاهتمام بالآخرين ضـد الأنانية :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ".  صححه الألباني :   5505 في صحيح الجامع  ، و عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه ". رواه البخاري و مسلم

تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم؛ إذا حرص كل فرد من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط، متين الأساس .

لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى تحقيق مبدأ التكافل والإيثار، فقال : ( لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، فبيّن أن من أهم عوامل رسوخ الإيمان في القلب، أن يحب الإنسان للآخرين حصول الخير الذي يحبه لنفسه، من حلول النعم، وزوال النقم، وبذلك يكمل الإيمان في القلب .

وإذا تأملنا الحديث، لوجدنا أن تحقيق هذا الكمال الإيماني في النفس، يتطلب منها سمواً في التعامل، ورفعة في الأخلاق مع الغير، انطلاقاً من رغبتها في أن تُعامل بالمثل، وهذا يحتّم على صاحبها أن يصبر على أذى الناس، ويتغاضى عن هفواتهم، ويعفو عمن أساء إليه .

 وكما يحب للناس السعادة في دنياهم، فإنه يحب لهم أن يكونوا من السعداء يوم القيامة، لهذا فهو يسعى دائما إلى هداية البشرية، وإرشادهم إلى طريق الهدى، واضعاً نصب عينيه قول الله تعالى : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين } ( فصلت : 33 ) .

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أسوة في حب الخير للغير، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يدّخر جهداً في نصح الآخرين، وإرشادهم إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة، روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم ) .

ومن مقتضيات هذا الحديث، أن يبغض المسلم لأخيه ما يبغضه لنفسه، وهذا يقوده إلى ترك جملة من الصفات الذميمة، كالحسد والحقد، والبغض للآخرين، والأنانية و الجشع، وغيرها من الصفات الذميمة، التي يكره أن يعامله الناس بها .

ومن ثمرات العمل بهذا الحديث العظيم أن ينشأ في الأمة مجتمع فاضل، ينعم أفراده فيه بأواصر المحبة، وترتبط لبناته حتى تغدو قوية متماسكة، كالجسد الواحد القوي، الذي لا تقهره الحوادث، ولا تغلبه النوائب،، فتتحقـق للأمــة سعادتها، وهذا هو غاية ما نتمنى أن نـــراه على أرض الواقع .

وعندما نتمثل هذا الحديث الشـريف في فكرنا وسلوكنا، تتغير أنفسنا تغيراً إيجابياً كبيرأ، وتخرج من الأنانية إلى الشعور والاهتمام بالآخرين، وهذا تغيير إيجابي كبير .

 وأظن أفضل طريقة للخروج من الأنانية هي التواضع، فلنقتدِ برسول الله صلى الله عليه وسلم في تواضعه، ونقرأه ونكرر قراءته مرات ومرات، ونقرأ سيرة الخلفاء الراشدين، مرات ومرات ....كي تنغرس فينا فضيلة التواضـع ...

 قطـوف من تواضعـه صلى الله عليه وسلم :

أقولها للذكرى لأنها تنفع المؤمنين، وكلكم تعرفون ما سأقول بل أكثر منه، ولنقرأ في كتاب شيخنا محمد علي مشعل يحفظه الله ( النبي محمد صلى الله عليه وسلم ) ط1، 1427، دار غراس، الكويت .

(( عيشه وأكله وشربه صلى الله عليه وسلم :

 لقد اكتفى صلى الله عليه وسلم من الدنيا وعيشها بالذي يقيم صلبه، واكتفى بالكفاف ولم يمد عينيه إلى زينة الحياة الدنيا ؛ لأنها متاع الغرور، ولعب ولهو، وأعرض عن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها وترادفت عليه فتوحاتها، وعرضت عليه أن تجعل له بطحاء مكة ذهباً فقال : لا يارب أجوع يوماً وأشبع يوماً، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك واثني عليك ( رواه الترمذي ) .

وقالت عائشة : إن كنا آل محمد لنمكث شهراً ما نستوقد ناراً إن هو إلا التمـر والمـاء ( رواه الشيخان ) . وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه : ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان ( مائدة مرتفعة ) ولافي سكرجة ( إناء صغير ) ولاخبز له مرقق، ولا رأى شاة سميطاً ( مشوية بجلدها) قط.

وقالت عائشة : ماشــبع صلى الله عليه وسلم ثـلاثـة أيام تباعــاً من خبــز حتى مضى لســبيله ( البخاري ) .

ودعا لأهله وآله : ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ) ( الشيخان ) وقالت عائشة : ماترك رسول ا لله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولاشاة ولابعيراً ( رواه مسلم )، ولقد مات ومافي بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطل شعير في رف لي ( الشيخان ) فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني ( متفق عليه ) .

وقالت عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعـه مرهونـة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير (متفق عليه ) ...

وقال صلى الله عليه وسلم لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله ( البخاري ) . وكان لاينهر خادماً، وماضرب أحداً من خدمه وعبيده وإمائه، ولم يـر قط ماداً رجليه بين أصحابه، وكان يخيط ثوبـه ويخصف نعلـه، ويخدم نفسه، ولما أمر أصحابه بإصلاح شاة، فتقاسموا العمل، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : وعلي جمع الحطب ..

أما فراشه صلى الله عليه وسلم فعن حفصة : كان فـراش رســول الله صلى الله عليه وسلم في بيتـه مسـحاً نثنيـه ثنيتيـن فينام عليه، فثنيناه ليلة أربع، فلما أصبح قال : مافرشتم لي ؟ فذكرنا له ذلك، فقال : ردوه بحاله، فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي ( الترمذي ) )) .

فلماذا لا نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونأخذ بعض أفعاله، لا أقول كلها لأننا لا نقدر، بل نأخذ بعضها، لنأخذ منها التطلع إلى الآخرة، وليس إلى الدنيا، وعندئذ نتواضع في الدنيا، ونتخلص من الأنانية التي تفسد علينا نفوسنا، وسلوكنا، وأعمالنا في الدنيا والآخرة ...

ولا نتخلص من الأنانية ونصل سـن الرشـد إلا إذا كررنا قراءة القرآن مع التدبر والتمعن في الآيات، وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلناه صلى الله عليه وسلم قدوة لنا في سلوكنا، ومصاحبة الأخيار الذين يذكروننا بالآخرة،  وعندئذ نصل مرحلة الرشـد والموضوعية ونتخلص من الأنانية .... عندئذ يغير الله أحوالنا ، بعد أن نغير أنفسنا  ، والله أعلم

               

*دكتوراه في التربية