صوم رمضان يُعلمك كيف تقول: لا
صوم رمضان يُعلمك كيف تقول: لا
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
من الجمعة إلي الجمعة، وبخاصة في مواسم الطاعات كشهر رمضان وبها صلاة التراويح، بات من الصعوبة بمكان العثور علي مسجد به واعظ يعظ، يعلم ويعي، يصدح بالحق، يحترم عقول المصلين، وينال ثقتهم، يجمع ولا يُفرق، يتخول بالموعظة، يبني ولا يهدم، يقول ما ينفع،وما يود المصلون سماعه،فيجيب عن أسئلتهم، ويحل مشكلاتهم، يأتمر بأمر عقيدته وشريعته، ويستنير بحكمته، ولا يخشي في الله لومة لائم، فعينه علي رضا ربه، لا رضي غيره.
حقا لقد مضي زمان كنت تحار عند أي من أمثال هؤلاء العلماء، ولا نزكي علي الله أحداـ يأخذ دينه. كنت تجد نفسك ضمن حشود غفيرة جاءت لتعلم، ولتتعلم، ولتعمل. مواعظهم باقية الأثر في النفوس وإن رحلوا. شخصياتهم وكلماتهم مغروسة محفورة رغم مضي السنين. لكن يُرفع العلم بموت العلماء، فلا يجد الناس إلا أئمة جُهالاً.
لم نجد من أمثال هؤلاء العلماء الفطاحل "إثارة للجدل، وإشاعة للفتن، وخلط للأمور، وعدم اختيار الموضوع المناسب بالطريقة المناسبة، في المكان المناسب، وللمستمعين المناسبين، وغمز هنا ولمز هناك، والامتثال للتوجيهات بمواصلة "حرباً إعلامية مدفوعة الأجر علي طرف أو آخر مغضوب عليه" ـ ليس ساحتها منابر المساجد وفق ما يدعون من فصل بين الدين والسياسةـ لكنها منابر حكر لهم، وكيل بعدة مكاييل، وفقاً لمطامع آنية ضيقة.
لم نسمع يوما من علمائنا الأفذاذ ـ وإن كان حتى موظفاً يقوم بأداء مهام وظيفته ـ من يقول: " استُعملت عليكم، سأقول ما أقول، وهذا قدركم، فمن أعترض علي شيء مما أقول فليكتب إلي وسأعرض شكواه من مكاني هذا".
إن للمسجد رسالة دينية واجتماعية وحضارية ، ولن تنهض الأمة إلا باستعادة دوره المتعدد الأوجه: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (النور: 36-38).
إن تفريغ المساجد من القيام برسالته علي أكمل وجه، وغلقها (منعاً للتجمعات)، وتحجيم دور العلماء العاملين المخلصين، وفرض وعاظ (يقرؤون من أوراق وضعت لهم)، ولا يتحلون بمثل تلكم الصفات ـ سابقة الذكرـ جانب من سياسات "تجفيف الينابيع، والحرب علي الإرهاب، وصياغة "إسلام مُعتدل"، حداثي، وما بعد حداثي":"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (البقرة: 114). وليترك الناس، لا ينتظمهم ناظم من وازع عقدي وإيماني وأخلاقي، نهباً للفراغ والضياع والتشتت والتفكك والشقاق والعنف الخ
ما عليك إن أن تجول بناظريك والواعظ يعظ علي منبر الجمعة ستجد المرتادين/ المُصلين وقد غط أكثرهم في نوم عميق. أفلو كانت الموعظة تلامس شئونهم، وتناقش قضاياهم، وتعكس همومهم، وتنير سبل حل مشكلاتهم، وتشرح بالهداية نفوسهم، هل كانوا يهربون منها إلي النوم الذي لا يحلو لهم إلا في هذا الوقت؟. إن في ذلك تضييعاً للحكمة من اجتماع الناس يومياً (الصلوات الخمس)/ أسبوعيا( صلاة الجمعة)/ سنوياً (شهر رمضان، وموسم الحج) لتدارس شئونهم، وإلي أن تأتي غيرها يعلم الله إن كانوا من الأحياء أم الأموات.
ليعذرني القارئ الكريم إذ طالت هذه المقدمة بعض الشيء. فلعلها تبين مدي المعاناة في العثور علي خطيب للجمعة/ أو لصلاة التراويح في رمضان/ أو العيدين، والصلاة خلفه بإخلاص وخشوع لعلها تكفر ما بينهم ما لم تُغشي الكبائر.
علي أية حال.. ففي آخر جمعة من رمضان، ونحن نودع هذا الشهر الفضيل قادت قدما ـ كاتب هذه السطور هربا من الصلاة خلف "من أستعمل علينا" ـ لمسجد آخر لم يرتاده من زمن لبعد الوصول إليه. فإذا بخطيب ـ يرتدي الزى الأزهري الرسمي، وقد دعا في نهاية موعظته للأزهر أن يحفظه ويرفع عنه يد الظالمين، ويعيد إليه مكانته ودوره ورسالته وطلابه عبر العالم ـ يتناول ثمرات الصوم وأثره في النفوس، تقوي وتنمية الإرادة.
ولعله كان موفقاً حيت تناول جانب الإرادة في شقها الرادع/ الناهي، والصدع بكلمة/ موقف لا.
فالمرء جائعاً يريد طعاما، والصوم يُعلمك أن تقول لنفسك: لا.
وهي تبغي شرابا، عن ظمأ وشدة عطش، فتقول لها: لا.
وقد تعتريها شهوة الجماع فتقول لها: لا.
وقد يجهل عليها جاهل، فيسب ويشتم فتقول لها: لا.
وقد يُطلب منه شهادة زور، فيقول: لا.
ثم وصولا لأمر العقيدة، فثمة (نفي) لما يُمكن/ يُتصور أن يُعبد من دون الله، ثم (إثبات) التوحيد الخالص له جل شأنه: "لا إله إلا الله".
وتخطي جانب "نهي/ ردع النفس" وردها عما لا ينبغي، بقول: لا، إلي قولهاـ بأسلوب وطريقة مناسبة، في وقت مناسب ـ في محيط الأسرة الصغيرة.
إلا أنه توقف عن هذين الجانبين: الشخصي والأسري، دون تجاوزهما لما هو أبعد مجالا.. اجتماعياً ووطنيا وأممياً، بل وإنسانياً، وأبقي أثراُ وأعمق أهمية، وأكثر تكاملاً واستكمالا. ولعله ترك المستمعين "يقيسون" علي هذين الجانبين السابقين دون الدخول في التفاصيل أو ذكر أمثله دالة علي ذلك.
علي أيه حال.. شكر الله له، فلقد لامس جانبا مفتقدا. فالناس مع كثرة تردادها (نعم) قولا وفعلا .. وصمتا وسلبا وإيجابا، وبنسبة(99.9%). نسيت قول (لا). مع أن الحياة لا تستقيم إلا بهما معا (نعم، ولا).. ومناصفة. ولا يظنن ظان أن من الدماثة واللباقة وحسن المعشر (الأسري/ الاجتماعي) والدهاء دوام القول (نعم).
إن من لن ولم يستطع قول (لا) حلت به أضعاف المشكلات، الشخصية والاجتماعية والوطنية والإنسانية أكثر مما لو نطق بـ (نعم).
فليجتمع الناس علي قول: لا للاستبداد.
فليجتمع الناس علي قول: لا للاستعباد.
فليجتمع الناس علي قول: لا للأستخراب.
فليجتمع الناس علي قول: لا للاستكبار.
فليجتمع الناس علي قول: لا للفساد.
فليجتمع الناس علي قول: لا للظلم.
فليجتمع الناس علي قول: لا للعدوان.
فليجتمع الناس علي قول: لا للفتن والفُرقة.
فليجتمع الناس علي قول: لا للإفقار.
فليجتمع الناس علي قول: لا للجهل.
فليجتمع الناس علي قول: لا للرق والرقيق البيض والأسود وكل الألوان.
فليجتمع الناس علي قول: لا للمخدرات.
فليجتمع الناس علي قول: لا للاحتكار.
فليجتمع الناس علي قول: لا للتعذيب.
فليجتمع الناس علي قول: لا ...لا...لا...لا......
تُري لو قيلت بمسئولية (بأسلوب مناسب وفي وقت مناسب الخ) هل يبقي من الدرن والأوساخ، والمفاسد والمظالم والاستبداد والاستعباد شيء؟؟؟.
إن في مدرسة الصوم لدروس وعبر وعظات منها "التقوي"، و"تربية الإرادة" علي قول لا.. فقولوها ـ بمسئوليةـ علي كافة الُصعد، ولتظهر حكم الصوم واقعا معاشا في حياتنا.