المبادرة لغُسل رمضان

احتفاءً بشرف الزمان

مخلص برزق*

[email protected]

كما أن للحج مواقيت زمانية ومكانية اختارها الله تعالى بحكمته للتمهيد للبدء في ذلك الركن العظيم، وكما أن له إحرام يسبقه الاغتسال والتطيب استعداداً للدخول في الأجواء الروحانية لتلك الشعيرة، فقد اختار الله تعالى لشهر رمضان المبارك مقدمات له، وخصه بنفحات خاصة تليق بقدره ومقامه العظيم المبارك عند الله. فقد ندب الله لعباده المؤمنين غسلاً خاصاً بشهر رمضان.. نعم، إنه غسل، ليس كأي غسل، لا يحسنه إلا القليل، ولا يبادر إليه إلا صاحب العقل الوفير، غسل جدير أن ينتبه له كل عاقل يبتغي التعرض لنفحات الله المباركة واغتنام عطاياه قبل أن يفوت وقتها وزمنها..

أما الميقات الزماني لذلك الغسل فليلة النصف من شعبان، فمن أدركه فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من فاته فقد فات عليه خير عظيم، يستحق أن يتجرع بعدها الغصة بترك تلك الفرصة. وأما كيفية الغسل فهو كما جاء في أحاديث نبوية صحيحة جديرة أن تدحض كل شك أو شبهة لقوة سندها ووضوح معناها.

انتبه.. إياك أن تخلط بين موضوعنا هذا وبين دعوات بعض العوام إلى تخصيص تلك الليلة بما لم يثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته، إياك أن تفوت خيرها ونفحاتها بالاستماع لبعض من يركبهم هاجس البدعة ومخالفة السنة، فيتجاوزون حدودهم بطمس أحاديث صحيحة عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في فضل تلك الليلة المباركة، وإغلاق أبوابٍ للخير بحجة الخشية من الوقوع في البدعة. ولك أن تطمئن إلى أننا لا نسوق لك إلا ما يزيدك إحساناً دون أن يوقعنا في الإثم بإذن الله تعالى..

اقرأ بقلبك وروحك هذا الحديث وتمعن في كلماته ودلالاته كي تتعرف على الغسل الذي نعني به.. "يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن"[1].

وفي رواية: "إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، و يدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه"[2]. وفي رواية: "فيغفر للمؤمنين ويترك أهل الضغائن وأهل الحقد بحقدهم"[3]. وفي رواية: "إن الله – تعالى – ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب"[4]

أما (المشرك) فنعوذ بالله من الشرك ما ظهر منه وما بطن.. نعوذ به أن نشرك به شيئاً نعلمه ونستغفره لما لا نعلمه.. وأما (المشاحن) فإن منبع الشحناء والحقد والبغضاء والضغائن هو القلب، المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وأنّى لقلب تلوث بهذه الأمراض والعلل أن يكون محط نظر الله تعالى ورحماته.

ولنقف هنا وقفة طويلة طويلة.. فالعبادة التي اختارها الله تعالى بين يدي شهر رمضان تختص بطهارة القلب وسلامته من الأحقاد والأضغان والشحناء ومن كل أمراض القلوب الأخرى، والأمر هنا يستوجب غسل القلب من كل هذه الأدران، والطهارة من هذه الأرجاس وبأسرع وقت ممكن، غسلاً لا يبقي أي شائبة، ولا يترك أي أثر معه، وذلك يتطلب الآتي:

- المسارعة إلى رد المظالم بين يدي التصافي مع من تشاحن، إذ لا يعقل ولا يكفي أبداً أن تبدي أسفك أو تنازلك لأخيك دون أن تعيد له كامل حقوقه، فذلك أدعى أن يدوم الود ويترسخ الحب والصفاء، وتزول المشاكل والأحقاد.

- العمل على سد جميع المنافذ على النفس التي سوف تسوق لك الأعذار والشواهد والاستدلالات بأنك على حق وأن غيرك على باطل تبريراً لقطيعة أو هجر أو مشاحنة، وما عليك إلا أن تصرخ بنفسك متهماً لها: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي".

- طلب الصفح ممن جافيت من الأرحام وبخاصة الوالدين. فإن كانت المشاحنة كريهة فإنها مع الوالدين أشد كرهاً وبشاعة وشناعة وهي كذلك مع الأقارب والأرحام.

- ترك سوء الظن والغيبة والنميمة، والاجتهاد في الاستغفار لكل من أكلت لحمه ونهشت عرضه أو آذيته أو ازدريته من إخوانك المسلمين.

- لأن الحسنات يذهبن السيئات فإن من أعظم أبواب تكفير الذنوب السعي في إصلاح ذات البين بين إخوانك، فطوبى لمن جعله الله مفتاح خير مغلاق شر، صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره.

- تمحيض النصح للأقربين بترك الغيبة والنميمة والغيرة والحسد خاصة للنساء اللاتي يفشو ذلك عند الكثير منهن.

- السعي لنشر هذه الأحاديث التي تحوي ترغيباً في فضل هذه الليلة وترهيباً لمن دنست الأحقاد قلبه، وأعمت الشحناء بصيرته.

إننا بحاجة إلى أن نغسل قلوبنا وأرواحنا من كل ما يمكن أن يحجب عنا مغفرة الله وفضله الذي أعده لخلقه في شهر شعبان المبارك الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين"[5]. وإن أعظم زاد نجهزه لاستقبال شهر رمضان المبارك قلوباً طاهرة من كل ما يفسدها من أمراض وعلل لنلتقي على موائد الخير بقلوب متحابة متصافية لا يشوبها غش أو خداع، أو حقد وحسد وضغينة.

اتصل الآن، سارع الآن، ليس لعروض تجارية فارغة أو دعايات إعلامية تافهة، ولكن من أجل أن تقول لإخوانك وأحبابك: تعالوا بنا نغسل قلوبنا لرمضان، تعالوا نعرضها لربنا تبارك وتعالى بأبهى صورة وأصفى حالة، كي نكون من الفائزين برحماته، المكرمين بغفرانه.

هلموا نرددها كلمات صادقة نجعلها عهداً وثيقاً لا نخلفه: "من اليوم تصافينا. ونطوي ما جرى منا، فلا صار ولا كان، ولا قلتم ولا قلنا، فقد قيل لنا عنكم، كما قيل لكم عنا، كفى ما كان من هجر، فقد ذقتم وقد ذقنا..

هلموا نردد بشفاه القلوب آيات ربنا: "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم".

               

*  كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.

[1]  رواة الحديث: معاذ بن جبل وأبو ثعلبة الخشني وعبدالله بن عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وأبو بكر الصديق وعوف بن مالك وعائشة المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 1144، خلاصة حكم المحدث: صحيح بمجموع طرقه.

[2] الراوي: أبو ثعلبة الخشني المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 771 خلاصة حكم المحدث: حسن.

[3]  الراوي: أبو ثعلبة الخشني المحدث: الألباني - المصدر: تخريج كتاب السنة - الصفحة أو الرقم: 511 خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[4]  قبيلة كلب اشتهرت بكثرة غنمها، الراوي: عائشة المحدث: الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 1251 خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره.

[5]  (رواه النسائي وصححه ابن خزيمة).