كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ

31

رضوان

[email protected]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾المائدة8

المعاني المفردة[1]

قَوَّامِينَ: ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية. وَالْقِيَامُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُوَاظَبَةِ.

بِالْقِسْطِ: بالعدل لا بالجور.

وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يحملنكم.

شَنَآنُ: بغض.

في ظلال النداء[2]

لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام ، على الاعتداء . وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم . فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل . . وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق . فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء . فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين! والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة . فيقدم له بما يعين عليه : ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله . . . ﴾ ويعقب عليه بما يعين عليه أيضاً : ﴿واتقوا الله ، إن الله خبير بما تعملون﴾. . إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط ، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله . حين تقوم لله، متجردة عن كل ما عداه . وحين تستشعر تقواه، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور . وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق ، ويثبتها عليه . وما غير القيام لله، والتعامل معه مباشرة، والتجرد من كل اعتبار آخر، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى . وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين ، كما يكفله لهم هذا الدين؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر؛ وأن يتعاملوا معه ، متجردين عن كل اعتبار .

وبهذه المقوّمات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعاً - معتنقيه وغير معتنقيه - أن يتمتعوا في ظله بالعدل؛ وأن يكون هذا العدل فريضة غلى معتنقيه ، يتعاملون فيها مع ربهم ، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن . . وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية . مهما يكن فيها من مشقة وجهاد . ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة؛ وأدت تكاليفها هذه؛ يوم استقامت على الإسلام . ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ، ولا مجرد مثل عليا ، ولكنها كانت واقعاً من الواقع في حياتها اليومية ، واقعاً لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد ، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة . . والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة . تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية ، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجاً في عالم الواقع يؤدى ببساطة ، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة . . إنها لم تكن مثلاً عليا خيالية ، ولا نماذج كذلك فردية . إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقاً آخر سواه . وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها - بما فيها جاهلية العصور الحديثة - ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر ، ومناهج يصنعها الناس للناس . ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة . إن الناس قد يعرفون المبادىء؛ ويهتفون بها . . ولكن هذا شيء ، وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر . . وهذه المبادىء التي يهتف بها الناس للناس طبيعي، ألا تتحقق في عالم الواقع . . فليس المهم أن يُدعى الناس إلى المبادىء؛ ولكن المهم هو من يدعوهم إليها . . المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة . . المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر . . المهم هو المرجع الذي يرجع إليه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادىء . . وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادىء التي تدعو إليها، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله، فما يقوله فلان وعلان علام يستند؟ وأي سلطان له على النفوس والضمائر؟ وماذا يملك للناس حين يعودون إليه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادىء؟

يهتف ألف هاتف بالعدل . وبالتطهر . وبالتحرر . وبالتسامي . وبالسماحة . وبالحب . وبالتضحية . وبالإيثار . .. ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس؛ ولا يفرض نفسه على القلوب . لأنه دعاء ما أنزل الله به من سلطان! ليس المهم هو الكلام . . ولكن المهم من وراء هذا الكلام!

ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادىء والمثل والشعارات - مجردة من سلطان الله - ولكن ما أثرها؟ إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم . تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور . فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس . فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان! ولا يكون لها في كيانهم من هزة ، ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر!

ثم إن قيمة هذه « الوصايا » في الدين ، أنها تتكامل مع « الإجراءات » لتكييف الحياة . فهو لا يلقيها مجردة في الهواء . . فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا؛ وإلى مجرد شعائر؛ فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق! كما نرى ذلك الآن في كل مكان . .

إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين؛ وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه . ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات! . . وهذا هو « الدين » في المفهوم الإسلامي دون سواه . . الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة .

وحين تحقق « الدين » بمفهومه هذا في حياة الجماعة المسلمة أطلت على البشرية كلها من تلك القمة السامقة؛ والتي ما تزال سامقة على سفوح الجاهلية الحديثة؛ كما كانت سامقة على سفوح الجاهلية العربية وغيرها على السواء . . وحين تحول « الدين » إلى وصايا على المنابر؛ وإلى شعائر في المساجد؛ وتخلى عن نظام الحياة . . لم يعد لحقيقة الدين وجود في الحياة!.

هداية وتدبر

 1. نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف المفسرون فى سبب نزولها فيه على قولين: أحدهما: أن النبي خرج إلى يهود بني النضير، يستعين بهم في دية، فهمّوا أن يقتلوه، فنزل ذلك فيه، وهذا قول قتادة، ومجاهد. ثم إن الله تعالى ذكرهم نِعَمَهُ عليهم بخلاص نبيهم بقوله تعالى: ﴿اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَن يبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾. والقول الثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً، ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَطْلَعَ الله نَبِيَّهُ على ذلك، فنزلت فيها هاتان الآيتان، وهذا قول الحسن.[3]

2. يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل فـي أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري.[4]

3. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط. يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به. وكذلك الفتوى. وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدوّ ولا صديق. ولا يجوز اتباع الهوى.[5]

4. إن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها محصورة في نوعين: التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فقوله ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ إشارة إلى النوع الأول وهو التعظيم لأمر الله، ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وقوله ﴿شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان: الأول: قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. الثاني: قال الزجاج: المعنى تبينون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه.[6]

5. إذا كان هذا العدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين. وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين. [7]

6. ﴿شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ﴾ فى هذه الشهادة ثلاثة أقاويل. أحدها: أنها الشهادة بحقوق الناس، وهذا قول الحسن. والثاني: الشهادة بما يكون من معاصي العباد، وهذا قول بعض البصريين. الثالث: الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق.[8]

7. لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى، وأتى بصفة خبير ومعناها عليم، ولكنها تختص بما لطف إدراكه، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية.[9]

8. المقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان، وأن نكث العهود والإخلالى بما تقتضيه العقود لا يتفق والإيمان. فالمؤمن حقا يوفى بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره. ومن هنا نفهم معنى الحديث "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن[10]".[11]

9. نهاهم أوَّلاً عن أن يَحْمِلَهُم البَغْضَاءُ على ترك العدلِ، ثم اسْتَأنَفَ فصرَّح لهم بالأمْر بالعدْل

تأكِيداً، ثم ذكر عِلَّة الأمْر بالعَدْل وهو قوله: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، والمَعْنَى: أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من مَعَاصِي اللَّه، وقيل: أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من عَذَابِ اللَّه.[12]

10. يقول الدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي:[13]

·   نفاذ حكم العدو على عدوه في اللّه تعالى، ونفاذ شهادته عليه لأنه تعالى أمر بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له، لما كان لأمره بالعدل فيه وجه.

·   إن كفر الكافر لا يمنع من العدل في معاملته، وفي الآية الآمرة بالعدل والتقوى دلالة أيضا على أن يقتصر في المحاربة على المستحق للقتال، وأن المثلة بالأعداء غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وآذونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيقاع الغم والحزن بهم.

·   وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم. فهذه الآية وآية النساء [4/ 135] تعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة وشهادة الزور.

·   وجوب العدل في معاملة الناس قاطبة، سواء كانوا أعداء أو أصدقاء لقوله تعالى: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ..﴾ الآية.

·        عرفان الجميل ووجوب تذكر نعمة اللّه على المؤمنين في رد كيد الأعداء عنهم وعن نبيهم عليه الصلاة والسلام.

·   وجوب تقوى اللّه بنحو عام في كل أحوال الإنسان، ووجوب التوكل على اللّه بعد اتخاذ الأسباب، لإحراز السعادة الدنيوية والأخروية.

11. (الْقِسْطُ): هُوَ مِيزَانُ الْحُقُوقِ ، مَتَى وَقَعَتْ فِيهِ الْمُحَابَاةُ وَالْجَوْرُ - لأَيِّ سَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ - زَالَتِ الثِّقَةُ مِنَ النَّاسِ، وَانْتَشَرَتِ الْمَفَاسِدُ وَضُرُوبُ الْعُدْوَانِ بَيْنَهُمْ، وَتَقَطَّعَتْ رَوَابِطُهُمْ الاجْتِمَاعِيَّةُ، وَصَارَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا، فَلا يَلْبَثُونَ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بَعْضَ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ مِنْهُمْ، فَيُزِيلُونَ اسْتِقْلالَهُمْ، وَيُذِيقُونَهُمْ وَبَالَهُمْ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ الَّتِي شَهِدْنَاهَا فِي الأُمَمِ الْحَاضِرَةِ، وَشَهِدَ بِهَا تَارِيخُ الأُمَمِ الْغَابِرَةِ، وَلَكِنَّ الْجَاهِلِينَ الْغَافِلِينَ لا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ; فَأَنَّى يَعْتَبِرُونَ وَيَتَّعِظُونَ؟![14]

              

[1] . توفيق الرحمن. تفسير الكشاف. التحرير والتنوير.

[2] . في ظلال القرآن.

[3] . تفسير النكت والعيون/ الماوردي.

[4] . تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري.

[5] . توفيق الرحمن.

[6] . تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي.

[7] . تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي. تفسير البحر المحيط/ ابو حيان.

[8] . تفسير النكت والعيون/ الماوردي.

[9] . تفسير البحر المحيط/ ابو حيان.

[10] . متفق عليه.

[11] . زهرة التفاسير: الإمام الجليل / محمد أبو زهرة.

[12] . تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل.

[13] . التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج: د وهبة بن مصطفى الزحيلي.

[14] . تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار): محمد رشيد بن علي رضا.