فليَعْلَمنّ الله الذين صدقوا
فليَعْلَمنّ الله الذين صدقوا
م. محمد عادل فارس
المعركة مستمرة بين أهل الحق وأهل الباطل، قال تعالى: }ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا{ البقرة: 217.
وأهل الباطل يضحون في سبيل باطلهم.
والإسلام دين الله يستحق أن نرفع به الرأس، وأن نكون دعاةً له، وأن نثبت عليه، وأن نضحي في سبيله.
***
تتداعى إلى الذهن مجموعة من القيم حين نتحدث عن الانتماء إلى الإسلام، والدعوة إليه، والاعتزاز به: الثبات والتضحية والصبر والشجاعة والجهاد والكرم والإيثار.
ولحكمة بالغة هيأ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، من أول يوم لنبوته، أن يسمع كلمات تنبئه أنه على بداية طريق للصبر والثبات والتضحية، فقد قال له ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة بنت خويلد: "يا ليتني فيها جذعاً. ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوَ مخرجيَّ هم "؟! قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي. وإن يدركْني يومك أنصرْك نصرأ مؤزراً" رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم.
ولقد جاءت أحداث السيرة النبوية لتبين مصداق هذه الكلمات التي سمعها صلى الله عليه وسلم.
وعندما زاد ضغط قريش على أبي طالب حتى يتخلى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجعله يتوقف عن عيب آلهتهم! وظن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمه قد ضعُف عن نصرته قال: "يا عم!، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يُظهره الله أو أهلِك دونه، ما تركتُه". (مختصراً من سيرة ابن هشام).
ولقد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وضحّى صلى الله عليه وسلم تضحيات جساماً، وكان قدوة لكل مسلم إلى قيام الساعة.
وسار الصحابة y على هذا الطريق، فقدموا من أجل دينهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلاً.
ولم يَخْلُ التاريخ الإسلامي من أمثلة رائعة على تضحيات عظيمة قدّمها المسلمون كلما دعا الداعي لذلك.
وإليكم بعض الصور:
1- قال صلى الله عليه وسلم: "لقد أوذيتُ في الله وما يؤذى أحد، وأُخِفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من يوم وليلة، وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال" أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.
2- عن منبت الأزْديّ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية (أي قبل أن يسلم منبت) وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله. تفلحوا". فمنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبَّهُ، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بعُسٍّ من ماء فغسل وجهه ويديه وقال: "يا بنيّة. لا تخشي على أبيك غيلة ولا ذلّة" رواه الطبراني. والجارية المذكورة هي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- وقد حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الشعب ثلاث سنين، حتى أكلوا ورق الشجر، كل ذلك في رضا عن الله، وتضحية من أجل الإسلام.
وقصة الطائف وما أصابه من أهلها معروفة مشهورة.
أما يوم أحد فقد شُجّ رأسه الشريف وكُسرت رَباعيته، ودخلت حلقتان من المغفر في وجنته، وكان صلى الله عليه وسلم يسلت الدم بيده ويقول: "كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم؟!"
- وقد ثبت الصحابة وضحوا، وصدقوا العهد مع الله تعالى:
دفعوا ضريبتهم للدين من دمهم والناس تحسب نصر الدين مجاناً
وقصص صبر الصحابة على تعذيب المشركين في العهد المكي، وصبرهم على الجهاد ومصابرة العدو في العهد المدني قصص مستفيضة، ويكفي أن نذكّر بما لقيه آل ياسر، حتى استشهد تحت التعذيب ياسر وزوجه سمية، وحتى لقي عمّار من العذاب ما لا يطاق، ونذكّر بما لقيه بلال بن رباح على يد أمية بن خلف، وما لقيه عبد الله بن مسعود ومصعب بن عمير وزنّيرة والنهدية وأم عُبيس وجارية بني مؤمّل…
ونذكّر بمواقف التضحية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد والخندق وغيرها. لكننا سنقف ووقفة مع بطولة فائقة، وصبر على التضحية عجيب، للصحابي العظيم البراء بن مالك الأنصاري (أخي أنس بن مالك):
كانت "حديقة الموت" التي اعتصم بها مسيلمة الكذاب مع أربعين ألفاً من أتباعه، رحبة الأرجاء سامقة الجدران، فأغلق مسيلمة، والآلاف المؤلفة من جنده، عليهم أبوابها، وتحصنوا بعالي جدرانها، وجعلوا يُمطرون جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد، بنبالهم من داخلها فتتساقط عليهم تساقط المطر.
عند ذلك تقدم مغوار المسلمين الباسل البراء بن مالك، وقال:
يا قوم، ضعوني على تُرس، وارفعوا الترس على الرماح، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابها، فإما أن أستَشهد وإما أن أفتح لكم الباب.
وفي لمح البصر جلس البراء بن مالك على ترس، فقد كان ضئيل الجسم، ورفعته عشرات الرماح فألقته في "حديقة الموت" بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة، فنزل عليهم نزول الصاعقة، وما زال يجالدهم أمام باب الحديقة، ويُعمل في رقابهم السيف حتى قتل عشرة منهم وفتح الباب، وبه بضع وثمانون جراحة من بين رمية بسهم أو ضربة بسيف.
فتدفق المسلمون على "حديقة الموت"، من حيطانها وأبوابها وأعملوا السيوف في رقاب المرتدين اللائذين بجدرانها، حتى قتلوا منهم قريباً من عشرين ألفاً ووصلوا إلى مسيلمة فأردَوه صريعاً.
حُمِل البراء إلى رحله ليُداوى فيه، وأقام عليه خالد بن الوليد شهراً يعالجه من جراحه حتى أذن الله له بالشفاء، وكَتَبَ لجند المسلمين على يديه النصر.
وما من صحابي من الصحب الكرام إلا وله قصة عجيبة في التضحية والبذل. فقد خرج أبو بكر رضي الله عنه عن ماله كله أكثر من مرة، وتبرع عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وتبرع عثمان رضي الله عنه لجيش العسرة وجهزه من ماله، وخرج الصحابة رضوان الله عليهم من دُورهم وتركوها لكفار مكة، مهاجرين في سبيل الله إلى المدينة المنورة. وهذا عمير بن الحمام ألقى التمرات كان يأكلها بعد أن سمع تشجيع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد يوم بدر، وقال: "إنها لحياة طويلة إن بقيتُ، حتى آكل هذه التمرات"، ثم أخذ سيفه وقاتل حتى قُتل. أما سعد بن الربيع رضي الله عنه فقد وجدوا فيه، يوم أحد، أكثر من ثمانين جرحاً ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، فما عرفته إلا أخته ببنانه.
ومن القصص الرائعة قصة صاحب النقْب، وهي أنه استعصى على مَسْلَمَة بن عبد الملك فتح حصن من الحصون، فوجد نقباً فندب الناس للدخول فيه، وهذا الدخول مغامرة خطيرة غير معروفة النتائج، فخرج رجل من عرض الجيش وتسوّر النقب ثم دخل فيه وفتح الله على يديه الحصن، فأراد مسلمة أن يعرف مَنْ صاحب النَّقْب، فأمر أن ينادي المنادي بالناس ويقول: إن الأمير يعزم على صاحب النقب أن يدخل ليكافئه على فعله، فخرج من عُرض الجيش رجل ملثم غير معروف ووقف عند باب القائد واستأذن على الأمير. فقال له الحاجب: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم به.
ولما وقف بين يدي مسلمة قال له: أيها الأمير إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط حتى يعرفكم بنفسه. فقال مسلمة دون تردد (لشدة رغبته بمعرفة صاحب النقب): له ذلك. قال: ألا تسألوا عن اسمه واسم أبيه. وألا تسودوا اسمه للخليفة، وألا تأمروا له بعطاء.
ثم كشف الرجل عن وجهه وقال: أنا صاحب النقب. فبكى مسلمة لإخلاص الرجل، وكان كلما صلى دعا الله بقوله: اللهم احشرني مع صاحب النقب.
وفي التاريخ كثير من أمثال هذا الرجل الصادق، وبهم تحققت انتصارات هذه الأمة في القادسية واليرموك وعين جالوت وحطين وغيرها من معارك الإسلام الخالدة.
فأين المضحون الذين يؤْثِرون ما عند الله. يقدمون الغالي ليفوزوا بالنعيم الخالد. فالدنيا فانية، والأجل والرزق مكتوبان، والله على كل شيء قدير.
والتضحية والثبات يكونان في الرخاء والسلم، كما في الشدة والحرب.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله:
إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنّا. وهم لا يُتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافيةً عناصرُهم، خالصةً قلوبهم.
هذه الفتنة على الإيمان أصلٌ ثابت، وسنة جارية، في ميزان الله سبحانه: }ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين{.
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر، فيحاسَبُ الناسُ إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم. وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحداً إلا بما استُعلن من أمره، وبما حققه فعله. فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!.
ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون، وتعريضهم للفتنة، حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين.
إن الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفي قلوبهم إخلاص. وإلا الذين يؤثرونها على الراحة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع. فهي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء.
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان. وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة. فهناك فتن كثيرة في صور شتى، ربما كانت أمرّ وأدهى.
هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يَخْشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً. وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم، وينادونه باسم الحب والقرابة، واتقاء الله في الرحم التي يعرّضها للأذى أو الهلاك.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير، وتصاغ لهم الأمجاد، وهو مُهمَل لا يُحِسُّ به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً.
وهنالك فتنة الغربة في البيئة، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله غارقاً في تيار الضلالة، وهو وحده غريب طريد.
وهناك فتنة أن يجد المؤمن أمماً غارقة في الرذيلة، وهي مع ذلك راقية في مجتمعها، ومتحضرة في حياتها، يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان. ويجدها غنية قوية، وهي محاربة لله.
وهنالك الفتنة الكبرى. فتنة النفس والشهوة، وجاذبية الأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان، وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان، والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصورات أهل الزمان!.
فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، ولم يثبت إلا من عصم الله، وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى.
وما بالله – حاشا لله – أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة.
فالنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتحرك قواها الكامنة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، وهؤلاء هم الذين يتسلّمون الراية في النهاية، مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار.
وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما بذلوا لها من الصبر على المحن، وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات، والذي يبذل من دمه وأعصابه، ومن راحته واطمئنانه، ومن رغائبه ولذاته، ثم يصبر على الأذى والحرمان، يشعر بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل، فلا يسلمها رخيصة.
ومن نال البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفّل به وعدُ الله، فإن أبطأ فلحكمة مقدّرة، فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحدٌ بأغْيَرَ على الحق وأهله من الله، وحسبُ المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، يكونوا أمناء على حق الله، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء:
روى ابن حبان في صحيحه عن سعد قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثن الأمثل فالأمثل. يُبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُفَ دينه ضعُف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة"!.
}من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت، وهو السميع العليم{
فلتطمئن القلوب الراجية في لقاء الله، ولتنتظر ما وعدها الله إياه، انتظار الواثق المستيقن، ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ويقين. فإن الله يسمع لها ويعلم تطلعها: }وهو السميع العليم{.
}ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه{.
فلا يقفن أحد في وسط الطريق، وقد مضى في الجهاد شوطاً، يطلب من الله ثمن جهاده، ويمنّ عليه وعلى دعوته، ويستبطئ المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء. وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل :}إنّ الله لغنيّ عن العالمين{. وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده، وأن يستخلفه في الأرض، وأن يأجره في الآخرة بثوابه: }والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرنّ عنهم سيئاتهم، ولنجزينّهم أحسن الذي كانوا يعملون{
إن هذه الدعوة لا تستقيم في نفس إذا كانت هذه النفس تحسّ بما تبذل فيها. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن ما تقدّمه هو من فضله وعطاياه، فهو فضل يمنحها إياه، وعطاء يختارها له، واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله، لا المن والاستكثار.
فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله، من تكفير للسيئات، وجزاء على الحسنات، وليصبروا على تكاليف الجهاد، وليثبتوا على الفتنة والابتلاء، فالأمل المشرق والجزاء الطيب، ينتظرانهم في نهاية المطاف.
ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء. يرسمها في كلمات معدودات، صورة واضحة الملامح بارزة السمات: }ومن الناس من يقول: آمنا بالله. فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله، ولئن جاء نصر من ربك ليقولنّ: إنا كنّا معكم. أوَليس الله بأعلم بما في صدور العالمين؟ وليعلمن الله الذين آمنوا، وليعلمن المنافقين{.
ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء، يحسبها خفيفة الحمل، هينة المؤونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، }فإذا أوذي في الله{ بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى }جعل فتنة الناس كعذاب الله{ فاستقبلها في جزع، واختلت في نفسه القيم، واهتزت في ضميره العقيدة، وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه، حتى عذاب الله، وقال في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من العذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة.
}ولئن جاء نصر من ربك ليقولنّ: إنا كنا معكم{!
إنا كنا معكم، وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير. ولكن حين يجيء الرخاء تظهر الدعوى العريضة، وينتفش المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المهزومون، فيقولون: }إنا كنا معكم{
}أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين؟{