الهجرة ... منهج لبناء الأمة
الهجرة ... منهج لبناء الأمة
رسالة فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين الأسبوعية
رسالة من محمد مهدي عاكف
المرشد العام للإخوان المسلمين
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه .. وبعد ،
ونحن نستقبل عاماً هجريا جديداً - والمبشرات تحوطنا – ما أحوجنا إلا أن نعزم جاهدين على استرداد الأمجاد بهمة وتصميم, وما أحوجنا اليوم - وقد أصبحت الأمة مطمعاً لأعدائها - إلا أن نبدأ بخطوات بنائها من جديد, فقد جاءت الهجرة بمشاهدها ومواقفها, منهجاً يستلهم منه المخلصون أسس البناء, فالهجرة كانت مرحلة بين الصبر على الأذى في مكة, إلى مرحلة الصبر على الدعوة والانطلاق برسالة الإسلام, ومن مرحلة الإيمان والتهذيب الفردي, إلى مرحلة بناء المجتمع وصياغة الأمة بالتشريع الإلهي .
تلك الصياغة التي جعل الله بدايتها : الإيمان الصادق والعمل المتواصل,
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(البقرة:218), فلم تكن فراراً أو هروباً من المواجهة, وإنما كانت حداً فاصلاً بين الحق والباطل, عن طريق الاجتهاد والبذل وتقديم التضحيات, استعداداً لمواجهات أخرى, ولذلك قرنها الله تعالى بالجهاد في سبيله .ولن تكلل هذه الخطوات بالنجاح, إلا إذا سارت على نهج الهجرة في الشعور بمعية الله, والثقة الكاملة في نصر الله القادم :
(إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )(التوبة: من الآية40)ونصر الله يتوقف على ما يقدمه أبناء الأمة من تضحية بما يملكون, رغم المكر بهم والتآمر عليهم, وذلك حينما يتحلون بإرادة قوية وهمة عالية, فالله غالب على أمره :
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(لأنفال:30)أما آن لنا من هجرة حقيقية
هجرة من الضعف إلى الاحتساب في سبيل الله, هجرة من التهاون إلى التضحية على المضي في طريق الإيمان, هجرة من التكاسل إلى مواجهة التحديات في كل شئون الحياة, هجرة من التخلف المهين إلى التقدم والازدهار .
حيث نحقق منهج الهجرة في تربية : النشء على الجرأة في موقف علي رضى الله عنه, والشباب على الشجاعة في موقف عبد الله بن أبي بكر, والرجال على التضحية في موقف صهيب, والمرأة على المشاركة في موقف ذات النطاقين, والأسرة على الطاعة في موقف عائلة أبي سلمة, والجماعة على التخطيط والإعداد وتعبئة الناس على الإقدام والبذل والعمل .
هنالك يبزع نور الأمة, وتحقق هجرتها الصادقة, من الظلم إلى العدل, ومن الجور إلى المساواة, ومن القهر إلى الحريات, ومن الهوان إلى الإباء, ومن المذلة إلى العزة .
فإذا بها تخرج من التبعية للمشروع الأمريكي الصهيوني الوهمي, الذي أثقلنا بالديون, إلى تكامل إسلامي وتعاون اقتصادي, كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم ببناء السوق الإسلامي بعد الهجرة, فتواجه البطالة وتقيم المشروعات الاقتصادية المشتركة, حيث لا فقر ولا عوز ولا حاجة ولا هجرة للشباب فراراً من الفقر إلى الموت .
وترتفع من الاستضعاف والتسلط السياسي, إلى إرادة قوية في بناء حضاري متكامل, تربط الإنسانية برب السماء, فتختفي بشاعة الحروب والصراعات, وجرائم الاقتتال والعنف, وفظاظة النهب والبلطجة .
وتعلو من التشرذم والتفرق, إلى الأمة الواحدة, والتي بدأت من أول وهلة من الهجرة, في صحيفة المدينة, التي كتبها النبي - صلي الله عليه وسلم - وقد جاء فيها : (هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب, ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم, أنهم أمة واحدة من دون الناس ) .
لننطلق فليس الأمر بالعسير
ما أحوجنا أن ننطلق اليوم كما انطلقت الأمة بالأمس : حاملة التوحيد الخالص, ومتسلحة بالعلم الراقي, ومنطلقة بميراث النبوات, وداعية بالحوار والحسني .
نقدم الإسلام نظاماً للحياة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً, وليس الأمر بالعسير, على أمة هذه صفاتها, فالله يقول :
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: من الآية110), خاصة وأن أمتنا هي من جعلها الله أمة الوسط : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة: من الآية143)وإني لمتعجب من أمة هذا حالها, تصاب بهجرة عقول أبنائها لنفع غيرها, وتحرم الأوطان من علمهم ؟!
هي إذن دعوة لبناء الأمة, والبدء في إعلاء شأنها, رغم الواقع المرير: من الانهيار والتصدع والتفكك والانحلال, ولذا تحتاج منا لجهود مضنية, حتي يأتي نصر الله القريب :
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(غافر:51), وصدق النبي صلي الله عليه وسلم وهو يبشرنا بهذه الحقيقة : "إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها" .وهذا الأمل المحقق يتطلب منا كأفراد ومجتمعات وحكومات :
أولاً: أن نثق في هذه الحقيقة مهما اشتدت الأزمات, وأن يغمرنا اليقين بأن نصر الله للأمة آت لا محالة.
ثانياً : أن يسأل كل منا نفسه, ما دوري في بناء الأمة ؟ بعدما فشلت كل المناهح الأرضية, خاصة في دول صانعيها قبل غيرهم, من اشتراكية وقومية ورأسمالية, فلم يبقَ لنا إلا منهج الإسلام ومشروعه الأوحد في صناعة الأمة .
كيف نحقق منهج الإسلام ؟
فإن أردنا تحقيق منهج الإسلام فلنبدأ من الهجرة : إقتداءً بالرسول فهو قدوتنا, وذلك ابتداءً بالمهاجر المطارد صلي الله عليه وسلم, الذي يقدم التضحيات, وانتهاءً بالتمكين لرسالة الله في إرساله صلي الله عليه وسلم رسائل الإصلاح لملوك العالم وحكام الأرض .
وإن أردنا بناء الأمة علي منهج الإسلام فلنبدأ من الهجرة : بصناعة جيل كالأوائل, على فهم ووعي وإدراك, من رجال ونساء :
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: من الآية29)جيل متماسك بالحب, قوي بالمؤاخاة :
( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )(الحشر: من الآية9)جيل وفيّ لدعوته, محب لوطنه, يردد مع النبي صلي الله عليه وسلم : ( والله إنك خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) .
أصارحكم القول
وأصارحكم القول إن بناء الأمة يبدأ :
أولاً بهجرة الأفراد :
"فالمهاجر من هجر ما نهي الله عنه", ومن هنا نبدأ التغيير, بالتوبة وهجر المعصية والذنب: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".
وثانياً بهجرة الجماعات والدول :
في أن تهجر التنايذ والتقاعس والاستبداد والظلم والباطل وكل ما يكرهه الله : " سئل النبي صلي الله عليه وسلم : أي الهجرة أفضل يا رسول الله ؟, قال : أن تهجر ما كره ربك " .
فإذا كان الكون كله مهاجر إلى الله, والأنبياء جميعا هاجروا إلى الله, فالصهاينة اليوم يغتصبون أرضنا مضحين بأموالهم ومكانتهم بحجة الهجرة ولكن من أجل الإفساد والاحتلال واللصوصية, والأمريكان يحتلون بلداننا من أجل نهب ثرواتنا واحتلال مقدراتنا, فهل آن لنا بهجرة حقيقية إلى الله, نعلنها في قوة : هجرة إلى الله لتحرير الأرض ومواجهة الظلم والفساد والاستبداد : "فمن كانت هجرته إلى الله فهجرته إلى الله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" .
وصلي الله على محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
القاهرة في : 2 من شوال 1428هـ الموافق 10 من يناير 2008م