دروس وعبر من ملحمة أحد الخالدة 5
دروس وعبر من ملحمة أحد الخالدة:
الحلقة الخامسة
د. فوّاز القاسم / سوريا
( لقطات مشرقة من المعركة :
كان عمرو ابن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله [ ص ] حين أفرد في فترة اضطراب المعركة , عقب تخلي الرماة عن أماكنهم , وإحاطة الكفار بالمسلمين , والصيحة بأن محمدا قتل , وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم .
وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله [ ص ] قتالا شديدا . وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة , ولكن وقته درعان كانتا عليه . وضربها هو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها . .
وكان أبو دجانة يترس بظهره على النبي [ ص ] والنبل يقع فيه , وهو لا يتحرك , ولا يكشف رسول الله [ ص ] .
وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعا إلى رسول الله [ ص ] ويقف دونه وحده , حتى يصرع . . في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت:قال أبو بكر الصديق:لما كان يوم أحد , انصرف الناس كلهم عن النبي [ ص ] فكنت أول من فاء إلى النبي [ ص ] فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه . قلت:كن طلحة ! فداك أبي وأمي ! كن طلحة ! فداك أبي وأمي ! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح . وإذا هو يشتد كأنه طير , حتى لحقني , فدفعنا إلى النبي [ ص ] فإذا طلحة بين يديه صريعا . فقال [ ص ]:" دونكم أخاكم فقد أوجب " . وقد رمي النبي [ ص ] في وجنته , حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته . فذهبت لأنزعها عن النبي [ ص ] فقال أبو عبيدة:نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني ! قال:فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه , فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله [ ص ] ثم استل السهم بفيه , فندرت ثنية أبي عبيدة . قال أبو بكر:ثم ذهبت لآخذ الآخر , فقال أبو عبيدة:نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني ! قال:فأخذه , فجعل ينضنضه حتى استله , فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى . . ثم قال رسول الله [ ص ] " دونكم أخاكم فقد أوجب " قال:فأقبلنا على طلحة نعالجه . وقد أصابته بضع عشرة ضربة .
وجاء علي - كرم الله وجهه - بالماء لغسل جرح رسول الله [ ص ] فكان يصب الماء على الجرح , وفاطمة - رضي الله عنها - تغسله . فلما رأت أن الدم لا يكف , أخذت قطعة من حصير , فأحرقتها , فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم .
وقد مص مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله [ ص ] حتى أنقاه . فقال له:"مجه" فقال:والله لا أمجه أبدا ! ثم ذهب , فقال النبي [ ص ]:" من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا " . .
وفي صحيح مسلم أنه [ ص ] أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش . فلما رهقوه قال:" من يردهم عني وله الجنة ? " فتقدم رجل من الأنصار , فقاتل حتى قتل . ثم رهقوه فقال:" من يردهم عني فله الجنة وهو رفيقي في الجنة " . . فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة . فقال رسول الله [ ص ] " ما انصفنا أصحابنا " . . ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه . وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا , حتى انجلت الكربة . . وقد بلغ الإعياء برسول الله [ ص ] أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به , فجلس طلحة تحته حتى صعدها . وحانت الصلاة . فصلى بهم جالسا .
ومن أحداث هذا اليوم كذلك : أن حنظلة الأنصاري [ الملقب بحنظلة الغسيل ] شد على أبي سفيان , فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله . وكان جنبا . فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته , قام من فوره إلى الجهاد . فأخبر رسول الله [ ص ] أصحابه أن الملائكة تغسله . ثم قال:سلوا أهله ما شأنه ? فسألوا امرأته , فأخبرتهم الخبر !
وقال زيد بن ثابت:بعثني رسول الله [ ص ] يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . قال:فجعلت أطوف بين القتلى , فأتيته وهو بآخر رمق , وبه سبعون ضربة , ما بين طعنة برمح , وضربة بسيف , ورمية بسهم . فقلت:يا سعد . إن رسول الله [ ص ] يقرأ عليك السلام , ويقول لك:أخبرني كيف تجدك ? فقال:وعلى رسول الله [ ص ] السلام . قل له:يا رسول الله أجد ريح الجنة . وقل لقومي الأنصار:لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله [ ص ] وفيكم عين تطرف . . وفاضت نفسه من وقته .
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار , وهو يتشحط في دمه , فقال:يا فلان . أشعرت أن محمدا قد قتل ? فقال الأنصاري:إن كان محمد قد قتل فقد بلغ , فقاتلوا عن دينكم .
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام:رأيت في النوم , قبل أحد , مبشر بن عبد المنذر يقول لي:أنت قادم علينا في أيام . فقلت . وأين أنت ? فقال:في الجنة , نسرح فيها حيث نشاء . قلت له ألم تقتل يوم بدر ? فقال:بلى . ثم أحييت . فذكرت ذلك لرسول الله [ ص ] فقال:" هذه الشهادة يا أبا جابر " . .
وقال خيثمة - وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله [ ص ] يوم بدر:لقد أخطأتني وقعة بدر , وكنت والله عليها حريصا , حتى ساهمت إبني في الخروج , فخرج سهمه , فرزق الشهادة . وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة , يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول:الحق بنا ترافقنا في الجنة , فقد وجدت ما وعدني ربي حقا . وقد - والله يا رسول الله - أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة . وقد كبرت سني , ورق عظمي , وأحببت لقاء ربي . فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة , ومرافقة سعد في الجنة . فدعا له رسول الله [ ص ] بذلك . فقتل بأحد شهيدا .
وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم : اللهم إني أقسم عليك أن القي العدو غدا , فيقتلوني , ثم يبقروا بطني , ويجدعوا أنفي وأذني . ثم تسألني فيم ذلك ?
فأقول:فيك !
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج , وكان له أربعة بنين شباب , يغزون مع رسول الله [ ص ] إذا غزا . فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه , فقال له بنوه:إن الله قد جعل لك رخصة , فلو قعدت ونحن نكفيك ! وقد وضع الله عنك الجهاد . فأتى عمرو بن الجموح رسول الله [ ص ] فقال:يا رسول الله . إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك . والله إني لأرجو أن استشهد , فأطأ بعرجتي هذه في الجنة . فقال له رسول الله [ ص ] " أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد " . وقال لبنيه:" وما عليكم أن تدعوه ? لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ? " . . فخرج مع رسول الله [ ص ] فقتل يوم أحد شهيدا .
وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله , لا يعرفونه , وهم يظنونه من المشركين . فقال حذيفة:أي عباد الله , أبي . فلم يفهموا قوله حتى قتلوه . فقال: يغفر الله لكم . فأراد رسول الله [ ص ] أن يؤدي ديته . فقال حذيفة:قد تصدقت بديته على المسلمين . فزاد ذلك حذيفة خيرا عند رسول الله .
ولما وقف رسول الله [ ص ] بعد المعركة على جثمان حمزة - رضي الله عنه - تأثر تأثرا شديدا . وقال [ ص ]:" لن أصاب بمثلك أبدا . وما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا ...
وقد أمر رسول الله [ ص ] أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم , ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة . وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم . فنادى منادي رسول الله [ ص ] برد القتلى إلى مصارعهم فردوا . ووقف - صلوات الله وسلامه عليه - يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد . وكان يسأل:أيهم أكثر أخذا في القرآن ? فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد . ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة . فقال :" ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد ".