لا تقولوا راعنا
رضوان سلمان حمدان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} البقرة104
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} النساء46
المفردات
"(رَاعِنَا): فِعْلُ أَمْرٍ، وَمَوْضِعُ الْجُمْلَةِ نَصْبٌ بِـ(تَقُولُوا). وَقُرِئَ شَاذًّا «رَاعِنًا» بِالتَّنْوِينِ; أَيْ لا تَقُولُوا قَوْلا رَاعِنًا.."(1)
راعِنا: أمر من المراعاة، أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا..
انْظُرْنا: أي انظر إلينا، أو انتظرنا وتأنّ علينا وأمهلنا
أَلِيمٌ: مؤلم وهو النار."(2)
سبب النزول
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِهَا، فَلَمَّا سَمِعَتْهُمُ الْيَهُودُ يَقُولُونَهَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَكَانَ {رَاعِنَا} فِي كلام اليهود سبًّا قبيحًا فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَسُبُّ مُحَمَّدًا سِرًّا فَالآنَ أَعْلَنُوا السَّبَّ لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَكَانُوا يَأْتُونَ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ {رَاعِنَا} وَيَضْحَكُونَ فَفَطِنَ بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَكَانَ عَارِفًا بلغة اليهود وقال: يا أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ فَقَالُوا: أَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا لَهُ؟ فَأَنْزَلَ الله تعالى: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} الآيَةَ.(3)
مناسبة الآية لما قبلها
"اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه"(4)
]وَمُنَاسَبَةُ نُزُولِ هَاتِهِ الآيَةِ عَقِبَ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي السِّحْرِ وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَمِّهِ، أَنَّ السِّحْرَ كَمَا قَدَّمْنَا رَاجِعٌ إِلَى التَّمْوِيهِ، وَأَنَّ مِنْ ضُرُوبِ السِّحْرِ مَا هُوَ تَمْوِيهُ أَلْفَاظٍ وَمَا مَبْنَاهُ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِ الأَلْفَاظِ فِي الْمَسْحُورِ بِحَسَبِ نِيَّة السَّاحر وتوجهه النَّفْسِيِّ إِلَى الْمَسْحُورِ، وَقَدْ تَأَصَّلَ هَذَا عِنْدَ الْيَهُودِ وَاقْتَنَعُوا بِهِ فِي مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِمْ.[(5)
يبدأ الحديث عن بني إسرائيل من الآية 40 في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} ]البقرة40[ واستمر الحديث إلى آيتنا التي نحن معها وتتابع إلى قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}]البقرة 147[ نلحظ الاهتمام الكبير بهؤلاء لما يريد الله من تنبيه على أمرهم وخطرهم.
التفسير والبيان
يا من آمنتم بي ورضيتم أن تدخلوا في ديني، يا أيها الذين صدقوا الله, واتبعوا رسوله، يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً ورسولاً استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..
] هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة (البقرة وهي سورة مدنية ، وفي القرآن كله) ، بالنداء الدال على الإقبال عليهم، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامًّا أمروا فيه بأصل الإسلام، وهو عبادة الله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21].
وثاني نداء أتى خاصاً: {يا بني إسرائيل اذكروا} [البقرة: 40]. وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين: اليهودية والنصرانية، ذُكِّروا فيه بالنعم الجزيلة، وتُعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخُوّفوا من حلول النقم الوبيلة.
وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين. عُلموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله، والتذكير بالنعم، والتخويف من النقم ، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه. والتبجيل.
والخطاب بيا أيها الذين آمنوا متوجه إلى من بالمدينة من المؤمنين، وإلى كل مؤمن في عصره[. (6)
وأختار التفسير التالي في معنى الآية الكريمة لما يؤديه من غرض:
]خاطب اللّه المؤمنين في هذه الآية في شأن مشترك بينهم وبين اليهود، موجها لهم إلى ما هو الأمثل في اختيار اللفظ الذي يبدأ به الكلام مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، كانوا يقولون إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه ، ونراجعك القول لنفهم عنك.
وكانت الكلمة راعِنا عند اليهود كلمة سب قبيح من الرعونة، فكانوا يخاطبون بها النبي قاصدين معنى السب والشتم، وأصلها في العبرية «راعينوا» أي شرير، فنهى اللّه المؤمنين عن هذه الكلمة، وأمرهم بكلمة تماثلها في المعنى، وتختلف في اللفظ، وهي انْظُرْنا التي تفيد معنى الإنظار والإمهال، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين. وإجمال المعنى: أقبل علينا وانظر إلينا.
واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول وتدبر وإمعان، وللكافرين ومنهم اليهود عذاب مؤلم شديد ، وفيه إشارة إلى أن ما صدر منهم من سوء أدب في خطاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كفر، لأن من يصف النبي بأنه شرير، فقد أنكر نبوته. فهذا أدب للمؤمنين ، وتشنيع على اليهود.[(7)
الإرشاد
1. ولا تقولوا راعنا: النهي عن القول باللسان مجرد الترديد باللسان فما بالكُم بالإيمان والاعتقاد والعمل به كمنهج حياة.
2. استخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود يشي بمدى عظيم غيظهم وحقدهم، كما يشي بسوء الأدب، وخسة الوسيلة، وانحطاط السلوك.(8)
3. النهي الوارد بهذه المناسبة يوحي برعاية الله لنبيه وللجماعة المسلمة، ودفاعه – سبحانه – عن أوليائه، بإزاء كل كيد وكل قصد شرير من أعدائهم الماكرين.(9)
4. كشف دسائس اليهود وكيدهم للإسلام والمسلمين؛ وتحذير الجماعة المسلمة من ألاعيبهم وحيلهم، وما تكنه نفوسهم للمسلمين من الحقد والشر ، وما يبيتون لهم من الكيد والضر.
5. نهى الجماعة المسلمة عن التشبه بهؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب في قول أو فعل؛ ويكشف للمسلمين عن الأسباب الحقيقية الدفينة التي تكمن وراء أقوال اليهود وأفعالهم، وكيدهم ودسهم، وألاعيبهم وفتنهم، التي يطلقونها في الصف الإسلامي.(10)
6. اليهود قوم مخادعون، يتلاعبون بالألفاظ، وينشرون الأذى على الناس كما تنشر الأفعى سمومها، ويحقدون على الآخرين، ولا سيما العرب، وكانوا يتوقعون أن يكون نبي آخر الزمان منهم، فلما بعث من العرب عادوه وآذوه. وقد حذّر القرآن الكريم المؤمنين من محاكاة ألفاظهم واتّباع أساليبهم[(11)
7. قوله تعالى: {وَٱسْمَعُواْ} فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة. أحدها: فرِّغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة. وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا. وثالثها: اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيداً عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول."(12)
8. تجنّب الألفاظ المحتمِلة التي فيها التعريض للتنقيص والغَضّ.(13)
9. قصودُ الأعداء في جميع أَحوالهم – من أعمالهم وأقوالهم – قصودٌ خبيثة؛ فهم – على مناهجهم – يبنون فيما يأتون ويَذَرُون. فسبيلُ الأولياء التَّحرزُ عن مشابهتهم. والأخذ في طريق غير طريقهم.(14)
10. التمسّك بسدّ الذرائع وحمايتها.. وقد دلّ على هذا الأصل الكتابُ والسُّنة. والذَّرِيعة عبارةٌ عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ٱرتكابه الوقوع في ممنوع. – وَهِيَ الْوَسَائِلُ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى أَمْرٍ مَحْظُورٍ – (15). أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سَبّ بلغتهم؛ فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ؛ لأنه ذريعة للسبّ، وقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فمنع مِن سبّ آلهتهم مخافةَ مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى: {وَاسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ} [الأعراف: 163] الآية؛ فحرّم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت؛ فكانت الحِيتان تأتيهم يوم السبت شُرّعاً، أي ظاهرة، فسدّوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وكان السّدّ ذَرِيعة للاصطياد؛ فمسخهم الله قِردة وخنازير؛ وذكر الله لنا ذلك في معنى التحذير عن ذلك؛ وقوله تعالى لآدم وحوّاء: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [البقرة: 35].
وأمّا السُّنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن "أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهنّ ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير (فذكرتا ذلك) لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنَوْا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصُّوَر أولئك شرار الخلق عند الله»" أخرجه البخاري ومسلم. قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنّسوا برؤية تلك الصُّوَر ويتذكّروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم ، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم أنهم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها؛ فحذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدّد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسدّ الذرائع المؤدّية إلى ذلك فقال: "اشتدّ غضب الله على قوم ٱتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" وقال: "اللَّهُمّ لا تجعل قبري وَثَناً يُعبد" وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بَيّن والحرام بَيْن وبينهما أمور متشابهات فمن ٱتقى الشبهات ٱستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يَرْعَى حَوْل الحِمَى يوشِك أن يقع فيه" الحديث. فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرّمات؛ وذلك سَدًّا للذريعة. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يَدَعَ ما لا بأس به حذراً مما به البأس" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم يَسُبُّ أبا الرجل فيَسُبُّ أباه ويسبُّ أُمَّه فيسبُّ أمهّ" فجعل التعرّض لسب الآباء كسب الآباء. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعِينَة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم" وقال أبو عبيد الهَرَوي: العِينَة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مُسَمًّى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن ٱشترى بحضرة طالب العِينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العِينة بثمن أكثر مما ٱشتراه إلى أجل مسمىًّ ثم باعها المشتري من البائع الأوّل بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضاً عِينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم. وسُمّيت عِينة لحصول النقد لصاحب العِينة؛ وذلك لأن العَيْن هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعَيْن حاضر يصل إليه من فوره. وروى ٱبن وهب عن مالك أن أمّ ولد لزيد بن الأَرْقَم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبداً بثمانمائة إلى العطاء ثم ٱبتاعته منه بستمائة نقداً ؛ فقالت عائشة: بئس ما شَرَيتِ ، وبئس ما ٱشتريت! أبلِغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يَتُب.[(16)
11. قوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} نهيٌ يقتضي التحريم.(17)
12. تحريم التشبه بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية؛ لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا، ويورون بالرعونة ؛ كما قال تعالى: {مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ«وعليكم»، وإِنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً، فقال {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت أخبرنا حسان بن عطية، عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"، وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم أخبرنا ابن القاسم به: "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم ، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا، ولا نقر عليها.
13. شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم، للمؤمنين ، ليقطع المودة بينهم وبينهم.
14. نبَّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى: {وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ}.[ (18)
15. لا شك أنَّ مَنْ يُعَامِلُ أُسْتَاذَهُ وَمُرْشِدَهُ مُعَامَلَةَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، يَقِلُّ احْتِرَامُهُ لَهُ وَتَزُولُ هَيْبَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى تَقِلَّ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ أَوْ تَعْدَمَ، وَإِذَا لَمْ تَزُلِ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَلِّمًا، فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَزُولُ لَا مَحَالَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُرَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةِ، وَمَنْ أَرَاهُ مِثْلِي لَا أَرْضَاهُ إِمَامًا وَقُدْوَةً لِي، فَإِنْ رَضِيتُهُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَالتَّقْلِيدِ وَكَذَّبَتْنِي الْمُعَامَلَةُ، فَأَيُّ قِيمَةٍ لِهَذَا الرِّضَى، وَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأً فَوْقَهُ عِلْمًا وَكَمَالًا ، وَأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْقَوْلِيَّةِ وَلَا الْفِعْلِيَّةِ ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ اللَّمَمِ ، وَعَنْ مِثْلِ هَذَا نَهَى الصَّحَابَةُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - ؛ لِئَلَّا يَجُرَّهُمُ الْأُنْسُ بِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَكَرَمُ أَخْلَاقِهِ إِلَى تَعَدِّي حُدُودِ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ التَّرْبِيَةُ إِلَّا بِكَمَالِهِ، وَهُوَ – تَعَالَى – يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآيَةَ.[ (19)
16. قال أبو عثمان رضي الله عنه: الأدب عند الأكابر وفي مجالس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الدنيا والعقبى . وقال أبو حفص الحداد رضي الله عنه: التصوّف كله آدب ، لكل وقت أدب ، ولكل حال أدب ، ولكل مقام أدب، فمن لازم الأدب بلغ مبلغ الرجال ، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب ، مردود من حيث يرجوا الوصول . وقال ذو النون المصري رضي الله عنه: (إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء). وقيل: من لم يتأدب لوقت فوقته مقت. وقيل: من حَبَسه النسب أطلقه الادب، ومن قل أدبه كثر شغبه. وقيل: الأدب سند الفقراء، وزينة الأغنياء. هـ[. (20)
17. وجوب السماع لرسول الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله تعالى بمعايشته والوجود معه. [(21)
18. وردت أحاديث صحيحة صرحت بأن اليهود كانوا يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام محرف لا يفطن له أكثر الناس يقصدون به الدعاء عليه بالموت، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بما يكبتهم ويخزيهم ومن هذه الأحاديث ما أخرجه البخارى عن أنس بن مالك قال:
1 – "مر يهودى برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السام عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وعليك"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه – أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا ، قال يقول " السام عليك " قالوا يا رسول الله ألا نقتله. قال: " لا ، إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم"".
2 – وأخرج الشيخان عن عائشة – رضى الله عنها – قالت:
"دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السام واللعنة ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق فى الأمر كله " فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟
قال " لقد قلت وعليكم"".
3 – وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: "سلم ناس من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال: "وعليكم" فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا: قال بلى قد سمعت فرددت عليهم، وإنما نجاب ولا يجابون علينا".
وإذن فالآية الكريمة وهى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} إلخ، وهذه الأحاديث الشريفة تثبت أن اليهود كانوا يستعملون من بين مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية القول الملتوى القبيح، والخطاب المحرف السىء، ولكن الله – تعالى – أحبط خطتهم، ونهى المؤمنين عن استعمال الألفاظ التى كان يتخذها اليهود ذريعة لبلوغ مآربهم ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بما يغيظهم ويخزيهم، وبذلك ذهبت مكايد اليهود أدراج الرياح وأيد الله – تعالى – رسوله والمؤمنين بقوته ونصره.[(22)
(1) التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (المتوفى : 616هـ)، المحقق: علي محمد البجاوي، الناشر: عيسى البابي الحلبي وشركاه.
(2) التفسير الوسيط، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر – دمشق، الطبعة الأولى – 1422 هـ
(3) أسباب نزول القرآن. أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى : 468هـ)، المحقق : عصام بن عبد المحسن الحميدان، الناشر : دار الإصلاح – الدمام، الطبعة الثانية 1412 هـ - 1992 م.. قال محقق الكتاب: قواه الحافظ ابن حجر في "العجاب" (ورقة 35 أ) ويشهد له: ما أخرجه ابن جرير (2/374) عن قتادة بمعناه. وهو مرسل صحيح الإسناد.
(4) تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي ( ت 606 هـ)
(5) التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)، الناشر : الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ.
(6) تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) بتصرف.
(7) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر المعاصر – دمشق، الطبعة : الثانية ، 1418 هـ
(8) تفسير في ظلال القرآن/ سيد قطب (ت 1387 هـ).
(9) تفسير في ظلال القرآن/ سيد قطب (ت 1387 هـ).
(10) تفسير في ظلال القرآن/ سيد قطب (ت 1387 هـ).
(11) التفسير الوسيط، د. وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر – دمشق، الطبعة الأولى – 1422 هـ.
(12) تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ).
(13) تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ).
(14) تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ).
(15) التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد.
(16) تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ).
(17) تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ).
(18) تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ).
(19) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار). محمد رشيد بن علي رضا (المتوفى: 1354هـ). الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب. سنة النشر: 1990 م.
(20)
تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة.(21) تفسير أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري.
(22) تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي.