دواعي الظهور
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله : (سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى:( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(البقرة160).
مابيّنوا؟
قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات.
قلت: ويلزم ذلك؟
قال : نعم، لتثبت أمانته، وتصح إمامته ، وتقبل شهادته.
قال ابن العربي : ويقتدي به غيره)(1).
في كثير من الأحيان تختلط عندنا المفاهيم وتتداخل المصطلحات وتختلّ الموازين ، فتغيب أدوات الفهم السليم ، فنقتنع بقضايا نحسبها من المسلّمات لو دقّّقنا فيها النظر وفكرنا فيها بعمق ، لوجدنا أنفسنا ضحايا فهم خاطئ أو قاصر لاغير، كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولا سليما وآفته من الفهم السقيم
من جملة هذه القضايا قضية إعلان الأعمال والظهور وارتياد مواقع الصدارة بها، فالبعض منّا بحجة أن حب الظهور يقسم الظهور ، يتوارى عن الأنظار ويبتعد عن الأضواء ويتملّص من تحمل المسؤوليات ، ويمارس نوعا من الورع السلبي ، ويصبح الفرد العامل النشط الفعال الحيوي المتوقّّّّد المنفتح ، الذي يتصدّر القافلة متّهما في نظر هؤلاء ، وما دروا أنهم ضحايا إفهام مقلوبة ومغلوطة وقاصرة ، مما يتسبب في تدمير فاعليتهم وتهديم طموحاتهم وانحطاط هممهم ، ويجعلهم ذيولا في القافلة وهمّلا في الركب ، فيستثقلون الانفتاح ويندفعون إلى العزلة القاتلة والانسحاب من الميدان والجفول من العمل العام ، فيحرمون بذلك أنفسهم من خير جزيل وأجر كبير، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد فهم البعض قديما هذا الفهم واعتزلوا فنبّههم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى عظيم خطئهم وانحراف مسلكهم ، فقد بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن رجالا خرجوا من الكوفة ونزلوا قريبا منها يتعبدون (اعتزلوا)، فأتاهم ففرحوا بمجيئه ، فقال لهم: ماحملكم على ماصنعتم؟
قالوا : أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبّد.
فقال لهم : لو أن الناس فعلوا مثل مافعلتم، فمن يقاتل العدو؟ ، ماأنا ببارح حتى ترجعوا)(2).
فابن العربي وشيخه رحمهما الله ينبّهاننا إلى أن هناك أمورا تستدعي الظهور، بل تدفع إليه وتوجبه والتي حدّداها ب:
1 ـــ تثبيت الأمانة
2 ـــ صحّة الإمامة
3 ـــ قبول الشهادة
4 ـــ توفير شروط الإقتداء
بل أكثر من ذلك فإن بعض السلف كان يتحدّث بما أنعم الله عليه من التوفيق إلى الطاعات ، ويعدّ ذلك من التحدّث بنعمة الله المأمور بها شرعا، فقد كان عبد الله بن غالب رحمه الله إذا أصبح يقول :(لقد رزقني الله البارحة خيرا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، وذكرت كذا، وفعلت كذا !!
فيقال له : ياأبا فراس ، إن مثلك لايقول مثل هذا ! فيقول: إن الله تعالى يقول:( وأمّا بنعمة ربّك فحدّث)(الضحى11) ، وأنتم تقولون : لاتحدّث بنعمة ربّك)(3)!!.
عبد الله بن غالب هذا الذي كان يقول في دعائه :(اللهم إنّا نشكو إليك سفه أحلامنا ، ونقص أعمالنا ، واقتراب آجالنا ، وذهاب الصالحين منّا)(4).
ومع كل هذا نحن لاننكر أن هناك نفوسا مريضة تستهويها الأضواء ويطغيها الإطراء ويسكرها الدلال ، فتنتفخ وتغتر وتنتشي ، لكن نحن نعرف أيضا أن :(من سامى نفسه فوق ما يساوي ردّه الله إلى قيمته)، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله(5).
فإن لم يراجعوا أنفسهم ويتوبوا ويستدركوا ، لانقسمت ظهورهم فعلا وانكشف زيفهم وخسروا الجولة وخرجوا من ميدان السباق واستمرت المسيرة بغيرهم، أما الموقف السليم فهو ماعبر عنه العبد الصالح أبو العباس المرسى رحمه الله بقوله:( من أراد الظهور فهو عبد الظهور ، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء ، أما عبد الله حقا فهو من إذا شاء الله أظهره ، وإذا شاء أخفاه لا يختار لنفسه ظهورا ولا خفاءً).
كما أنّنا ندرك كذلك أن المرء ــ مع ضرورة التعامل الإيجابي مع دواعي الظهور التي أشرنا إليها ــ لابد أن يكون له حظّه من عمل الخبيئة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل)( صحيح الجامع).
وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه :(اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيئ ) ، وعمل الخبيئة هو عمل صالح تقدّمه إلى مولاك لايعلمه إلا هو سبحانه وأنت .
لكن ذلك لايعني بأي حال من الأحوال ترك ساحات العمل واستمراء منطق إذا غابوا لم يفتقدوا ــ الذي يفهم في الكثير من الأحيان بغير مقصوده ــ ، وتغليب منهجية التخفّي والانسحاب ، بحجة الخوف من الرياء والشرك ، فسهل أن يحبس العبد نفسه بين أربعة جدران ، مبتعدا عن ضوضاء العمل الجماعي العلني الملفت للأنظار ، ثم يقول أنني حصلّت الإخلاص وحافظت على النية الصحيحة وأدركت مرتبة التجرّد ، فإن المحك الحقيقي لاختبار الإخلاص، والامتحان الأمثل لمعرفة صدق النوايا من عدمها ، والميزان الأصح لابتلاء التجرد ، هو العمل العام والمخالطة والميدان ، أو ماعبّر عنه الرافعي رحمه الله :(في اللهب ولا يحترق).
فالحذر من الرياء والحرص على الإخلاص مطلوب ، وكذلك مراعاة دواعي الظهور التي أشار إليها الإمام ابن العربي وشيخه أبو منصور الشيرازي رحمهما الله مطلوب كذلك ، والجمع بينهما هو الأمثل.
(1) ــ الموافقات للشاطبي ج1 ص 513.
(2) ــ الزهد لابن المبارك ص390.
(3)، (4)ــ أجمل الأزهار من حدائق الأبرار لموسى محمد الأسود ص77.
(5) ــ العوائق للراشد ص 49.