لا راحة بعد اليوم يا خديجة
أ. فراس حج محمد
إن التاريخ قد سجل هذه الجملة في رأس صفحته، وجعلها في صدر كتابه، وبلورها في محكم آيات تصويره وترتيله ، ومجدها الفعل والقول في زمن يعز فيه الكبار ، وتصغر فيه الهمم ، وتضعف فيه كواهل الرجال. لا راحة بعد اليوم يا خديجة ، جملة تحمل من الأرق في الدعوة ما تحمل وتنضح بالمجهول بقدر ما تستشرف الصعاب ، وتتنبأ بالمتاعب والأحمال الجسام ، لقد قالها الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم – باللحظة التي أيقن فيها أنه نبي مرسل ، فقد علم عليه السلام ماذا يعني كونه نبيا مرسلا ، يريد أن ينقل الناس من وضع إلى وضع ، من وضع يراهم فيه منحطين فكريا واعتقاديا ويتخبطون دينيا واجتماعيا ، يتلظون بسعير الشقاء في بعدهم عن منهج الله.
عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن المهمة لا يستطيعها إلا الرجال الرجالُ الأشداء الأقوياء فكان هذا نفَسه الذي يحركه طوال حملة الدعوة فصبر واحتسب ، ولم يزحزحه رأي زعيم أو قريب ، ولم يجعله يتراجع قول عم أو جد بل جدّ وعزم فكان من أولي العزم في حمل الدعوة ، وشق طريق هي من الصخر أصعب ، ومن توغلات الصحراء أرهب.
وانتقلت هذه الأنفاس الرصينة الصابرة الجادة المجدة إلى أصحابه ، فكانوا خير من اقتدى بقائدهم ، واستن بسنته ، وساروا على دربه لا يكلون ولا يملون ، يستعذبون العذاب في سبيل الله ، فكان خباب بن الأرتّ ، وخبيب بن عدي وآل ياسر أجمعين وعبد الله بن مسعود وبلال بن رباح الحبشي وصهيب الرومي خير الرجال الذين تربوا على مائدة المصطفى الدعوية القرآنية الربانية ، فكانوا خير أتباع لخير قائد ، فأصروا على تحمل عبء الدعوة ولم تشعر كواهلهم يوما بالتعب بل تشبثوا بالعمل ، فمنهم من مات في سبيل دعوته ، ومنهم من أوذي ، ومنهم من تشرد وتغرب ، وواصلوا الطريق حتى وصلوا إلى ما يصبون إليه جنة ورضوان وتمكين. فبنوا حضارة عمرت ما عمرت ، وما زالت إلى الآن إشعاعاتها الربانية تتقد مضيئة على العالم ، وإن حاولوا حجبها إلا أن أحدا لا يستطيع حجب نور السموات والأرض .
وعلى الرغم من ذلك تبدلت الأحوال ، وصعبت الآمال ، وتردت النفوس في مآرب الحياة وملذاتها ، وصغرت الهمم فصار أحدنا لا يفكر بمعالي الأمور ، ولا بمعاقد العز والسؤدد فرضي بالذل ، واستكان وخضع في وقت صارت تنطبق عليه الآية القرآنية " فخلف من بعدهم خلْف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا".
إن الدعوة اليوم لهي بأمس الحاجة لكل طاقة وإلى كل جهد ، وإلى كل بذل صغُر أم كبر من أجل أن ترجع عقارب الزمن تسير حسب دقات كون أراده الله أن يحكم بشريعته ، ويستضيء الليل بمصابيح هدايته ، فكان لزاما أن يوجد في هؤلاء المسلمين رجال كعمار وصهيب وخباب ، ونساء كخديجة بنت خويلد وسمية وأسماء حتى تحقق وعد الله ، فنكون من السابقين بالخير ، فوالله الذي لا إله غيره ، إن أمر الله لتام ولكن" ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" ، وإن الله ناصر دعوته ولكن ليمتحن القلوب والإيمان الذي في الصدور ، " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم".
إن الإسلام يستصرخ أتباعه ومريديه أن ينصروه بما يقدرون عليه لا أن يستسلموا لليأس والقنوط ، لا أن يعود الواحد منهم في نهاية نهاره يأوي إلى حسناء نجلاء ينام نوم من لا يخشى عقابا من الله ، ولم يحاسب على ما اجترحت يداه ينام قرير العين يظن أنه قد أدى شكر النعمة فصلى وصام ، وهو مع ذلاك لم يجعل الإسلام محل التطبيق ، ولم يساهم ولو بشيء بسيط في زحزحة الكفر وأهله ولا بحديث نفس ، فكيف يكون هذا معذورا عند الله من لم يفكر إلا كيف يطعم نفسه وأهله وتسلم أمواله وحاله وعياله من بطش الجبارين ، ولم يصارع ويكافح حتى ينال أعظم المراتب بالشهادة.
كيف يكون هذا ، وهو يرجو رحمة الله، فكيف تأتيه الرحمة ، وكيف تتنزل عليه السكينة ، وكيف يشعر بالراحة في بيته مع أهله وأولاده ، كيف يشعر ببركة رزقه ، كيف له أن يكون أولاده على خير ما يرام ، كيف يضمن عدم انحراف أبنائه من عدو يتربص به داخل بيته وخارج منزله ، تتربص به الدعوات الهدامة في إعلام ساقط ماجن فاجر ، وفضائيات خليعة ماجنة ، تسل التقوى من نفوس الناس كما تسل الشعرة من العجين ، وهو إذ يحفل بذلك يخسر الكثير الكثيرَ وهو لا يدري.
كيف يرضى بأنظمة ومشاعر جاهلية تتحكم بالناس فتصبغ المجتمع بصبغتها ، فتربي عنه أولاده فيعيشون كما يريدهم المجتمع لا كما يريدهم أبوهم ، كيف له أن يسيطر على مشاعره وهو يرى حرمات الله تنتهك ويسكت ، فيقع في الإثم غصبا عنه ، تتحكم بلقمة عيشه اقتصاديات استغلالية تمص دمه ولا تعطيه إلا ما يكاد يسد رمقه ، تحاصره الشهوات من كل فج وصوب ، ولا يملك إلا أن يغض بصره إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، كيف يحيا هذه الحياة دون أن تصيبه البلادة أو الجنون ، أو أن يملك نفسه فيهلك غما على واقع يحيط به شره من كل زاوية.
إن من يرى هذا الواقع الذي يعج بالمفاسد كيف له أن يرتاح بعدها ، أم أن التاريخ سيعيد علينا قولة محمد بن عبد الله النبي الأمي رجل القرن السادس الميلادي لزوجه خديجة عندما واجه المجتمع وهو أعزل ( لا راحة بعد اليوم يا خديجة ) ، فهل سيغمض جفن للدعاة بعد هذا القول؟؟