واهْدها اللهم سبلَها
جمال سعد حسن ماضي
يقول تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) العنكبوت 69
فهل بتوثيق الرابطة وإدامة المودة , تضمن القلوب , كمال التربية وجلال الصناعة الربانية ؟
لا بد أن تحاط القلوب , بسياج متين ركين , يضمن لها الاستمرار والثبات ، ولذلك جاءت الهداية , فالهداية هي : أولاً : البيان والدلالة , ثم ثانياً : التوفيق والإلهام ، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل , فإن حصل البيان ترتب عليه هداية التوفيق من الله ، والتمكين للإيمان وثباته وتحبيبه وتزيينه في القلب ، وجعله عند صاحبه مؤثراً له راضياً به , راغباً فيه بالقول والعمل والعزم , ثم إدامة ذلك والثبات عليه إلى الوفاة ، ومن ثم كان سؤال الرب الهداية هو سؤال التثبيت والدوام , بعد استكمال هذه الأمور , يقول تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام , ومن يرد أن يضله , يجعل صدره ضيقاً حرجاً , كأنما يصعد في السماء ) الأنعام 105.
والهداية لذلك بيد الله وحده :
( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص 56 ، وهي في القلوب أخص , حيث أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن , يقلبها كيفما شاء ، وما أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، وكان إذا نادى ربه قال : يا مقلب القلوب ,لأن الموانع التي تحول بين الهداية والقلب كثيرة , يجب أن نحذرها , فمنها :
ضعف المعرفة أو عدم صفاء الباطن أو الحسد أو الكبر أو حب المنصب والرئاسة أو الشهوة أو المال أو التعلق بالأهل والعشيرة أو الوله بالدار والعقار أو العادات والتقاليد .
يقول تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه , وأضله الله على علم , وختم على سمعه وقلبه , وجعل على بصره غشاوة , فمن يهديه من بعد الله , أفلا تذكرون ) الجاثية 23 .
وعلى هذا فالهداية حق لأهل الإيمان على الله , وهو لا يخلف الميعاد , يقول تعالى : ( إن علينا للهدي وإن لنا للآخرة والأولى ) الليل 12, ويقول تعالى : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) يونس 9 .
وقد ربط الله تعالى بين نتيجة الهداية والسعادة , بأنهما متلازمان ، كما أن الضلال والشقاء متلازمان , يقول تعالى : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) طه 123, ويقول تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى , قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا , قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) .
وللمتأمل في آيات الهداية ، يجد كم هي سعادة أولئك الذين كتب الله لهم الهداية , وهم في علو دائم ، فما وردت كلمة الهدى إلا بعد (على) كما في قوله تعالى : ( أولئك على هدى من ربهم ) لقمان 5 , وفي قوله تعالى : ( وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24 .
أما الضلال فجاء بعد (في) كما أيضاً في قوله تعالى: ( وإنهم لفي شك منه مريب) .
وكما يقول الإمام ابن القيم في أن الحكمة من ذلك للمتأمل البصير تكون : ( إن طريق الحق تأخذ علواً صاعدة بصاحبها إلى العلى الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سُفلاً ، هاوية بسالكها في أسفل سافلين ) المدارج ج1 .
ثم أن الهداية لا تتحقق إلا في ظل جماعة :
ولذلك كان الترتيب بعد توثيق الرابطة , وإدامة المودة ، كما في قوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) الفاتحة 6 ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت ، ( اللهم اهدني فيمن هديت ) , أي أدخلني هذه الزمرة , واجعلني رفيقاً لهم ومعهم .
فإذا كتب الله الهداية , أوجب ذلك هداية أخرى على هدايته , قال الله تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى) محمد 17 .
فهداهم أولاً فاهتدوا :
واهتدي على وزن افتعل , بمعنى بذل الجهد والمسئولية في تهيئة أرض الهداية , فالله هو الهادي والإنسان مسئول عن تلقي الهدى بالأسباب المختلفة , فليس هناك هداية بالإجبار , يقول تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) الأنعام 149, وإنما خلقنا الله لنسعد , ( فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى : إنا لمدركون , قال : كلا إن معى ربي سيهدين ) الشعراء 62 .
( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى عن الهدى ) فصلت 17 , أي دعوناهم للإسلام فرفضوا . فماذا كانت النتيجة ؟ : ( فأخذتهم صاعقة العذاب الهون , بما كانوا يكسبون ) , أي عاقبناهم على ذلك .
فزادهم هدى ثانياً :
يقول تعالى : ( و يزيد الله الذين اهتدوا هدي ) مريم 76 , بإعانتهم ومدهم بالقوة , وبنصرتهم ومضاعفة حسناتهم , فهذه الزيادة هي هداية إيمانية , لا يمكن الوصول إليها إلا بفضل من الله تعالى : ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) الكهف 13 .
وعلى ذلك فالذين يظنون أن السماء تمطر هداية , فينتظرون هداية السماء دون أن يبذلوا مجهودات الهداية , هؤلاء سيطول انتطارهم , حتي يتداركوا أمرهم , من تقديم مجهود الفهم والطاعة والعبادة والعمل . ومع ذلك عليهم بالاستمرار , فقدوتنا الحبيب مع كمال بذله وتمام جهده , كان يقول : اللهم اهدني فيمن هديت .
فما علينا إلا أن نسلك طريق الهداية :
وذلك في اتباع منهج القرآن الكريم : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين , الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ) الإسراء 9 , وبالمزيد من الجهاد والعطاء : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) العنكبوت 69 , وفي هجر أي سبيل للشيطان : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ) , فالشيطان عدو الهداية , يقول تعالى : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله , ويحسبون أنهم مهتدون ) الأعراف 30
نسأل الله أن يجعلنا من الهداة المهتدين , ومن الهادين المهتدين , ولا يجعلنا من الضالين المضلين , مصداقاً لقوله تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى , وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) الأنعام 71 .