التوبة
1 ـ 3
الشيخ أحمد الجمال الحموي
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
هي باب الله الواسع المفتوح على ساحة الكرم ، وهي طريقٌ ممهد إلى بحر الجود الإلهي الممتد دونما شطآن ولا حدود .
ما أسهل أن يسلك العبد هذا السبيل ، وأن يلج هذا الباب ، عندما يندم على ما فرط في جنب الله تعالى ، فتذرف العيون دموعها على الوجنات ، وكأنها الماء الطهور يغسل آثار الماضي ، ثم يمضي العبد إلى باب الله الواسع ، يحدوه أمل كبير بغافر الذنب وقابل التوب الذي هو أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ، والذي لا يرد من قصده ، ولا يخيب من رجاه .
نعم لقد صحا العبد التائب بعد الغفلة ، وسطع النور بعد الظلام ، وأبصر الحقيقة فأصبحت الأيام الماضية ، أيام كان يرتع في مهاوي الخطايا والآثام ، شبحاً مرعباً ، يهرب منه ، وذكرى أليمة تبعث الندم والألم معاً . تبعث الألم الذي لا يريح العبد منه إلا اليقين بكرم الله الذي يقبل التوب ويمحو الذنب .
لقد علم العبد أن له رباً يعفو ويصفح مهما عظمت الذنوب وكثرت العيوب ، وسمع من أعماق الغيب صوتاً يقول له : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً).
وها هي ذي آفاق الكون تحمل صوتاً آخر يخاطبه قائلاً : " عبدي لو جئتني بقراب الأرض خطايا جئتك بقرابها مغفرة ولا أبالي " ، فعزم على هجر المعاصي ونبذها ، وقرر أن يبدأ سيرةً جديدة ، وأن يصوغ حياته على نحو مختلف عما كان عليه ، صياغة عنوانها الطاعة والطهارة ، والبعد عن قذارة الخطايا ولوثاتها ، وإنه ليكاد يصرخ بأعلى صوته : وداعاً بل بعداً لك يا دنيا المعاصي ، ولا لقاء بيننا بعد اليوم يا دنيا الهوى والشهوات . وكم أنا سعيدٌ بهذا الصلح مع الله سبحانه ، مع ربي الذي لا غنى لي عنه طرفة عين ، وهو الغني عني وعن خلقه أجمعين .
رباه ما أجمل التوبة ، وما أعظم مشاعر العبد التائب الراجع إليك ، وكم تكون الدنيا ضيقة كئيبة لولا هذه النعمة ، نعمة التوبة والمغفرة . فلك الحمد يا رب كل الحمد ، ولك الثناء الأمجد الأجل ، على نعمك كلها ، وعلى رأسها ، بعد نعمة الإيمان ، نعمة التوبة التي ننعم ببردها ، ونستظل بظلالها بعد أن تلفحنا المعاصي ، فنلجأ إلى أفيائها ؛ وما اتعس العباد لولا باب التوبة المفتوح .
لكأن التوبة نهرٌ عذب جار ، يتطهر العبد به من أدرانه ، ينغمس في مياهه من لوثته الشهوات ، واكتوى بنار المخالفات ، فإذا النهر مغتسلٌ باردٌ يطفئ تلك النار ، ويغسل تلك الأوزار ، فيخرج العبد منه نقياً من الأوساخ والشوائب .
ومن معاني التوبة العظيمة أنها انتصار على النفس والشيطان ، وتحرر من إسار الهوى ، وقيود الشهوات ، في معركة داخلية ، يحتاج النصر فيها إلى توفيق الله عز وجل ، ثم إلى إرادة العبد وعزيمته الماضية .
ومن بركات التوبة أنها طريقة سهلة للفوز بمحبة الله سبحانه ، وهي بطاقة الولوج إلى ساحة الرضى والأنس ، فإن الله عز وجل ما وفقك إلى التوبة إلا لأنه أراد أن تعود إليه ، وما ذاك إلا عنوان المحبة ، وأمارة القرب .
وها هو ذا كتاب الله يبشر التائبين بهذا ، يبشرهم بالمحبة فيقول تباركت أسماؤه : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) ، نعم يحب التوابين كما يحب المقاتلين (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) .
لقد رفعت التوبة أربابها إلى مرتبة عالية منحها الله المجاهدين كيف لا والتوبة جهاد من نوع آخر . فكانت المحبة للمجاهدين على كل حال ، وان اختلفت ألوان الجهاد فشملت من يجاهد العدو ومن يجاهد النفس الأمارة وإن كان أحد اللونين لا يغني عن الآخر .
ومن معاني التوبة أنها اعتراف بالخطأ وإقرار بالضعف البشري ، ونداءٌ صامت يشق عنان السماء ، متوسلاً راجياً يطلب العفو والغفران . وهي في الوقت نفسه علامة على ارتقاء إدراك العبد وانفتاح عين بصيرته ، على حقائق الإيمان ، حتى أدرك قبح البعد عن الله وبشاعة المعصية ، وشؤم المخالفات ، فرمى بهذا كله وهرب منه مسرعاً إلى ربه ، ليحظى منه بالرحمة والرضوان .
ومن معاني التوبة العجيبة أن الله سبحانه يفرح بعبده التائب العائد إليه ، يفرح وهو الذي لا تضره معاصي العباد ، ولا تنفعه طاعاتهم ، لكنها الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء . قال صلى الله عليه وسلم : " لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت وعليها طعامه وشرابه ..." ثم بعد أن أيقن بالهلاك ويئس من العثور عليها غفا غفوة ثم صحا فإذا هي عند رأسه فأراد أن يشكر ربه فأخطأ التعبير من شدة الفرح فقال : " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " .
ألا تحب أيها العبد الضعيف المسكين أن تعقد صلحاً مع الله ؟
ألا تحب أن يفرح بك ربك سبحانه ؟
ألا تحب أن تتطهر من الخطايا ؟
إن كنت تريد ذلك ، قهيا إلى باب الحق سبحانه .
قف بالأعتاب..
وداوم قرع الباب ..
وقل : يا رب عبدك ببابك
جاءك بقلب منكسر
فلا ترده وأنت الكريم !. إن لم تغفر ، فمن يغفر ؟
وإن لم ترحم ، فمن يرحم ؟ يا رحمن ويا رحيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وإلى اللقاء بإذنه تعالى في حلقة قادمة .