استثمار منابر الدعوة
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن من منهج الأنبياء أن يستثمروا أي منبر يتاح لهم ، وأن يستغلّوا أول فرصة تتوفر لهم ، لتوحيد ربهم ، والتعريف بقضيّتهم ، ونشر دعوتهم ، وإبلاغ رسالتهم .
* فهذا سيدنا يوسف عليه السلام ، وهو ملقى في غياهب السجن ظلماً وعدواناً ، لا لذنب اقترفه ، بل لمكيدة دبّرتها امرأة العزيز ضدّه لأنه تمسك بالشرف والعفة والوفاء ... ومع ذلك ، فهو لم ينس قضيّته ، ولم يغفل عن دعوته ...
وفي أول فرصة تتاح له ، وفي الوقت الذي كان السجناء يحتاجونه في تأويل أحلامهم ، طرق على الحديد الحامي ، واستثمر المنبر ، واستغل حاجة السجناء له ، فنقلهم نقلة هائلة أدار بها رؤوسهم ...
(( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ، ذلكما مما علمني ربي ، إني تركت ملّة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون ، واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف:40)
* وهذا سيدنا موسى عليه السلام ... ففي الوقت الذي كان فيه فرعون يناقش معه قضية شخصّية ، تخص تربية موسى في بلاط فرعون ، ثم مشاجرته مع أحد رعايا فرعون ، وخروجه من مصر .. إلخ
استغل موسى الحشد الكبير الذي يحيط بفرعون ، وطرق على الحديد الحامي ، ونقلهم إلى قمم العقيدة وأجواء الدعوة :
(( قال ربّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ))
وأحس فرعون أنه تورّط بسؤاله موسى (( وما ربُّ العالمين .!؟ ))
فبادر إلى تشكيك من حوله ، والخروج من الجد إلى الهزل (( قال لمن حوله إلا تستمعون )) ألا تستمعون إلى هذا الهُراء .!!؟
ولكن موسى عليه السلام ، لم يعطه الفرصة ليمارس تشكيكه ، واستمر يطرق على الحديد الحامي ، ويستثمر المنبر النادر الذي أتيح له : (( قال : ربّكم وربّ آبائكم الأولين )) ...
ويستميت فرعون للخروج من المأذق الذي أوقع نفسه فيه بوصم موسى بالجنون ، ليغيّر الموضوع ، ويصرف أتباعه عن القضيّة الخطيرة التي يطرحها موسى (( قال : إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون )) ...!!!
ولكن موسى يستمر في منهجه ، ويلحّ في دعوته ، ويطرق على الحديد الحامي ، ويستثمر أعظم منبر يتاح له في حياته ، غير عابئ بهذا الهراء والتهريج الذي يمارسه فرعون لوقف دعوته ، وثنيه عن هدفه ، وينفذ هذه المرّة إلى عقول القوم الذين يخاطبهم .... (( قال : ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ))
وعندما يعجز الطغاة في ميدان الحجّة والمنطق والبيان ، يلجؤون كعادتهم دوماً إلى أساليبهم المعروفة في البطش والقهر والسجن والظلم والعدوان (( قال : لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنّك من المسجونين )) الشعراء من ( 22 – 29 )
* وهذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم ، إمام الدعاة ، وقدوة القادة يكلمه المشركون في الصلح والتفاهم فيما بينهم لتجنيب المجتمع القرشي مشاكل الخلاف والتصادم ، فيحلّق بهم في آفاق الإسلام ، وينقلهم إلى قمم العقيدة …
ويسمعهم من آيات الله البيّنات في سورة فصّلت وغيرها ، ما يدوّخ بها أسماعهم ، ويفحم عقولهم ، ويأسر قلوبهم ، ويخرس ألسنتهم ...
(( حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصّلت آياتُه قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون ، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرُهم فهم لا يسمعون )) ...إلخ
ثم يقول : (( ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فان تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي ، أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم )) .
* وهذا هو التلميذ النجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه .. يعزف على نفس الأوتار ، ويحلّق في ذات الآفاق …
إنه داعية ، يبحث عن قاعدة آمنة لدعوته في الحبشة ، قبل أن يكون مجرد هارب ، فار بلحمه و دمه ..
وأي داعية في الوجود ، هذا الذي يُبكي الملوك حتى تخضل لحاهم ، والأساقفة حتى يبللوا مصاحفهم.!؟
ويُسكرُ الناسَ ، لا بخمر هبُل ، ولكن بقرآن الله عز وجل .!؟
( أيها الملك ، كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئاً . وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
فصدقناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاءنا به من الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئاً ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا . فعدا علينا قومنا ، فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك ، أيها الملك .! )
فلما سمع النجاشي هذا المنطق الرائع ، قال : هل معك شيء مما جاء به رسولكم عن الله عزّ وجل .!؟
قال جعفر رضي الله عنه : نعم ..
قال : فاقرأ عليّ منه ...
فقرأ جعفر من صدر سورة مريم : (( كهيعص ، ذكر رحمة ربك عبده زكريا ، إذ نادى ربه نداءً خفيا ، قال ربّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ، ولم أكن بدعائك ربّي شقياً ...))
فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلّوا لحاهم ، وبللوا مصاحفهم ، ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة .
ثم التفت إلى مبعوثَي قريش وقال لهما : انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يكادون في بلادي أبداً ...
وبعد ... فالداعية المخلص له همّ يعيش به ، وقضية يجاهد من أجلها ، وعقيدة يدافع عنها ، ورسالة يعمل لنشرها ...
وهو يستثمر كل منبر يتاح له من أجل تبليغ رسالته ، ونشر دعوته ، والدفاع عن قضيّته ...
أما إذا أصبح همّ الدعاة جمع الأموال ، وبناء العمارات ، وتكديس الممتلكات ، والركون إلى الدنيا ، فقد تُوُدّع منهم ...!!!
بسم الله الرحمن الرحيم (( ألم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، ولقد فتنّا الذين من قبلهم ، فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين )) (العنكبوت:2)