الخالدون في ... النار
الخالدون في ... النار
كيف يحيَون
د.عثمان قدري مكانسي
لست ممن يدّعون معرفة ذلك ... فمبلغ علمي يقصر عن هذا ؛ ولن أجاري المفسرين والمحدّثين ، فمن ذا يطاولهم ؟! لكنني عشت مع الآيات المخيفة من سورة الدخان التي هزت كياني صلاة َ الفجر حين تلاها الإمام بقراءته المعبرة وصوته الذي نفذ في هذه الصبيحة إلى أعماقي ، فلم يدعني حتى جلست بين كتب التفسير أنقب عن ظلالها وأعيش أجواءها :
" إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ، خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ، ! ذق إنك أنت العزيز الكريم ! "
شجرة الزقوم : وما أدراك ما شجرة الزقوم ! " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " في قعر النار ، ومنه منشؤها ، ثم هي متفرعة في جهنم . وتصور هذه الشجرة التي تخالف كل أنواع الشجر الذي تلتهمه النار ، وهو وقود لها إلا هذه الشجرة ، فهي لا تنبت ولا تثمر إلا في النار .. فما ثمارها ؟ وماذا يشبه " طلعها " أي ثمرُها ؟، - وسمي طلعاً لطلوعه - " كأنه رؤوس الشياطين " فهل رأى أحدنا الشياطين ؟! لا لم يرهم ، فكيف شُـبـّه ثمر الزقوم بما لم نره ولم نعرفه؟! فالجواب أن نفوس الناس تتصور الشياطين برؤوسهم القبيحة المنفـّرة وإن لم يكونوا مرئيين لأنهم مثال كل خبث وسوء وقبح ، كما أن الطيبة والخير والجمال تتمثل في نفوس الناس بالملائكة . ألم يقل صواحب يوسف في وصف جماله حين طلع عليهم " ما هذا بشراً ، إنْ هذا إلاّ ملَك كريم ؟ " فهذا تشبيه تخييلي . والناس يتشاءمون من الغول وليست مرئية أو موجودة ، فيصفون قباحة الأسنان بها : مسنونة ٌ زرقٌ كأنياب الغول لما يُتصور من قبحها وشناعة منظرها . وبعض العرب تتهيّأ لهم الشياطين كالحيات ، لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها .
لما نزلت هذه الآية سخر فرعون هذه الأمة ، وقال : أتدرون ما الزقوم ؟ إن محمداً يعدنا أن في جهنم الزقوم ؛! إنما هو الثريد بالزبد والتمر . فبين الله خلاف ما قال .
" إن شجرة الزقوم طعام الأثيم " . كم يأكلون منها؟ أقليلاُ أم كثيراً على شدة مرارتها؟ " فإنهم لآكلون منها ، فمالئون منها البطون " يأكلون منها بشره لأنهم لا يصلون إليها متى شاءوا ، ولا يأتونها إلا جائعين ، والجائع حين يرى الأكل يهيم فيه أكان الأكل طيباً أم خبيثاً ، والزقوم طعامهم وفاكهتهم ،
وشجرة الزقوم التي خلقها الله تعالى في جهنم سماها القرآن " الشجرة الملعونة ..." فحين يأكلها أهل النار تغلي بطونهم كما يغلي الماء الحار ، وشبـّه ما يصير منها إلى بطونهم ب" المهل " : وهو النحاس المذاب .
كما أن الضريع طعامهم . " ليس لهم طعام إلا من ضريع " فما الضريع ؟ إنه نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، لا تقربه دابّة ولا بهيمة ، ولا ترعاه ، وهو سمّ قاتل ، من أخبث الطعام وأشنعه ويسمى الشِّبرقَ حين يكون رطباً . وقال ابن عباس : إنه شجر من نار ، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها . وروى القرطبي في تفسيره عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أشد مرارة من الصبر ، وأنتنُ من الجيفة ، وأحر من النار ، سماه الله ضريعاً " وقال بعض المفسرين : هو طعام لنتنه يضرعون عنده ويذلون ، وقيل : " إن الغسلين " ولا طعام إلا من غسلين " هو الضريع . هذا الضريع يأكله أهل النار فلا يشبعون " لا يُسمن ولا يُغني من جوع " فكأنه للعذاب فقط والعياذ بالله .
" ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم " والشّوب : الخلط . والحميم : الماء الحار المغلي . .. قال المفسرون : يُمزج لهم الزقوم بالماء المغلي الذي يقطع الأمعاء ليجمع لهم بين مرارة الزقّوم وحرارة الحميم ، تغليظاً لعذابهم وتجديداً لبلائهم ،
أما شرابهم فهو بلية أخرى ، فماذا يشربون ؟ وما أثر الشرب على الجسم ؟! يقول تعالى " وسُقوا ماءً حميماً ، فقطّع أمعاءهم " ويشاب هذا الماء المغلي بغساق أعينهم وصديدٍ من قيحهم ودمائهم " هذا فليذوقوه ، حميم وغسّاق " .. إذا ليس هناك ماء يروي الظمأ بل حميم يُلهب الأجساد ، ويمزق الأمعاء " لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً " .
ثم يأتي دور العذاب الشديد المتجدد " فالكفار ليس لهم مساكن كمساكن النيا بل يتنقلون كقطعان البهائم ، تساق بين أطباق النار السبعة ، فهل أسوأ من عيش البهائم ؟! بل إن البهائم في الدنيا لها حظائر لوقايتها من البرد والحر ، ويقدم لها ما يناسبها من الأعشاب وغيرها ، ويعتني بها أصحابها ، ويحافظون عليها فهي مالهم وتجارتهم وعليها تقوم حياتهم .
أما أصحاب النار فهم قطعان تساق إلى الزقوم لتأكل منه في مكان غير مكان إقامتهم ، ثم يُعادون إلى جهنم " ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " والدليل على ذلك قوله تعالى " يطوفون بينها وبين حميم آن " فلِلأكل مكان ، وللشرب مكان ، فبعد أكلهم الزقوم يُدفع المجرمون إلى جهنم بقسوة ، ويجرّون إلى جهنم مهانين محتقرين " خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم " والعَتل أن يُجذب المعاقـَب جذباً عنيفاً دون رحمة . يجرونه إلى منتصف النار . وهناك يبدأ العذاب بفنونه " ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم " يضرب الملك من الزبانية رأس الكافر فيفتته ثم يصب فيه حميماً قد انتهى حره إلى غايته ، فيقع في بطنه " يُصب من فوق رؤوسهم الحميم " وكأنه يصب في قارورة ، فيملؤها فماذ يحصل ؟! " يُصهر به ما في بطونهم " فيسلت ما في الجوف حتى يمرق من القدمين . وهل ينصهر ما في البطون فقط ؟ لا بل الجلود كذلك تحترق ، أو تُشوى " والجلود .." ، ثم يُعاد كما كان . فما هذا الطعام وما هذا الشراب ؟ وما هذه الحياة المقيتة ؟ نسأل الله العافية وحسن الختام .
روى القرطبي عن قتادة أن الآية الكريمة في سورة الدخان " ذق إنك أنت العزيز الكريم " نزلت في أبي جهل ، وكان قد قال : ما فيها – مكة – أعز مني ولا أكرم ، فلذلك قيل له تلك الآية السابقة . وقد التقى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله أمرني أن أقول لك : أولى لك فأولى " قال أبو جهل : بأي شيء تهددني ! والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً ، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه . فقتله الله يوم بدر وأذلّه ، وقيلت له هذه الآية على لسان سيد ملائكة العذاب " مالك " خازن النارالذي يضربه على رأسه بمقمع من حديد ، فيفتت رأسه عن دماغه ، فيجري دماغه على جسده ثم يصب فيه الماء المغلي ويقال له على سبيل السخرية والتوبيخ " ذق ؛ إنك أنت العزيز الكريم " .
أما لباس الكفار في جهنم فهو النار – والعياذ بالله منها – دليل ذلك قوله تعالى " والذين كفروا قُطّعت لهم ثياب من نار " فخيطت وسوّيت . وشُبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب وتأمل قوله تعالى " قُطّعتْ " وهو فعل ماض لما يستقبل من الزمان لأن الموعود منه محقق كالواقع لا محال ، ولعلها أعدت الآن ليلبسها أصحابها وقت دخولهم النار – اللهم عفوك ورحمتك - .. قال سعيد بن جبير : " من نار " من نحاس قد أذيب وهي السرابيل المذكورة في " قَطِران " وليس أحمى من النحاس إن أذيب . .. وقيل : إن النار حين تحيط بهم كإحاطة الثياب إذا لبسوها عليهم . صارت من هذا الوجه ثياباً . ألم يقل الله تعالى : " وجعلنا الليل لباساً " .
وتصوّر مقامع الحديد التي الذي تقهر وتذل ، وهي بيد الزبانية ملائكة العذاب وتسمى سياطاً كذلك " ولهم مقامع من حديد " وفي الحديث : " بيد كل ملك من خزنة جهنم مرزَبة لها شُعبتان ، فيَضرب – أي الملك - الضربة فيهوي بها سبعين ألفاً – من أهل النار – "
ويحاول الكفار - حين تجيش النار بهم وتفور فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها – أن يفروا منها إلى الخارج ، فتعيدهم الخزنة إليها بالمقامع المصاحبة بالتوبيخ والسخرية " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق " .
فما هذه الحياة التي يعيشها الكافر العاصي ؟ يأكل النار ، ويشرب النار ، ويلبس النار ، ويعذب بالنار . .. وهل تستحق هذه الحياة الفانية القصيرة أن يفسق فيها الإنسان لحظاته وسويعاته ، ويتكبر ويتجبر ويكفر بربه ، فيغضب منه الجبار ، فيخلد في النار ؟!
اللهم نعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا .
اللهم صل على عبدك ونبيك محمد ، وشفـّعه فينا .
اللهم لك الحمد حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك .
راجي عفوك ورضاك
الفقير إليك عبدك المحب
عثمان