يتفكرون ويعتبرون
يتفكرون ويعتبرون
بقلم: أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
حين يكرم الله المسلم بتفتح البصيرة ويقظة القلب ، يحس بعبوديته لله وأن صدق هذه العبودية كائن في تسخير الجوارح لطاعة الله والجهاد في سبيله ، لذا تجده دائم الفكرة ، ينظر فيعتبر، لا تبطره النعمة ، ولا تصرفه الدنيا وملذاتها عن الجهاد في سبيل الله والعمل للآخرة التي هي خير وأبقى ، وتراه حين يراه، لا يفتر عن ذكر الله ، والتفكر في آلائه ، يذكر الموت فلا يغتر بالحياة الدنيا ، ويذكر ما أعد الله للمؤمنين في دار كرامته فيصغر في عينيه كل ما يعظمه أولئك الذين غرهم بالله الغرور .
ولقد وصف الله أولي الألباب في سورة آل عمران فقال :
[إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار] (1).
وللربانيين أهل الخشية من علماء هذه الأمة ورجالها كلمات تنم عن مدى تذوقهم لهاتين الصفتين من صفات أولي الألباب ، وصفاء إحساسهم بنعم الله ودلالاتها على قدرته وحكمته جل وعلا .
فقد روي عن الحسن البصري قوله : (الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك) وإذن فلابد للمسلم من أن يجلو هذه المرآة دائماً لتريه حسناته فيزداد منها وسيئاته فيتوب إلى الله ويقلع عنها .
وقال سفيان بن عيينة : (الفكرة نور يدخل القلب) وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
ولم يكن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بمنأى عن هذه الساحة المشرقة المباركة ، فقد كانت حياته -وهو يحمل مسؤولية الإمارة- صورة صادقة عن هذا الصفاء الذي ارتفع به إلى الإنابة الدائمة لله عز وجل فكان ـ وهو يحكم الناس ـ رجل الآخرة في عدله وجهاده وتقواه فقد روي عنه قوله :
(الكلام بذكر الله عز وجل حسن ، والفكرة في نعم الله من أفضل العبادة).
كما روي أنه بكى يوماً بين أصحابه ، فسئل عن ذلك ، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر).
رحم الله الحسن وسفيان ، ورحم الله خامس الراشدين ورضي عنه ، فلقد برز في تاريخ هذه الأمة أنموذجاً لمعنى التقوى والصلاح ، وإن ذلك ليس مقصوراً على الفرد في نفسه وإنما هو قضية عظيمة تنعكس على المجتمع ، فعمر بن عبد العزيز لم يكن عابداً في صومعته ، ولكن عبد الله بتحكيم شريعة الإسلام ، وإقامة العدل بين الناس ، وزهادته في الدنيا وهي مذللة بين يديه ـ وقاد جيوش الجهاد إلى ساحات القتال في سبيل الله ، والتمكين لأمة الإسلام في الأرض .
أجل : لقد كان صلاح عمر بن عبد العزيز ضياء على طريق المسلمين في إعزاز دين الله ، والتوطيد لكلمة الحق في المجتمع ، وإقامة صروح العدل الذي جاء به الإسلام .. ذلكم هو الرجل الرباني الذي استطاع أن يحقق ـ بصدقه وإخلاصه ـ في زمن يسير ما تعجز عن تحقيقه السنون وهكذا يعلم الربانيون .
(1) سورة آل عمران : 190 ـ 191 .