ملامح باهرة

من عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم

محمد المجذوب

يقول الفيلسوف الإنجليزي (برناردشو) : (لو أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجه مشكلات هذا العصر لأمكنه أن يضع لها أصلح الحلول بأقصر الأوقات) .

ومثل هذا القول يصدر عن ذلك الفيلسوف إنما مرده إلى ما يعلمه عن طريقة رسول الله في علاج النفس البشرية ، تلك الطريقة التي سجلت أعظم النجاح في الجيل الإسلامي الأول ، إذ أخرجته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام ، فكونت من تلك النفوس الضائعة خير أمة أخرجت للناس ، فكان عمله صلى الله عليه وسلم فيها كعمل الخبير بعناصر المادة المنثورة في طبقات الأرض ، فلا يزال بها يخرج منها عجائب الموضوعات الباهرة للعقول .. وطبيعي أن نجاحه صلى الله عليه وسلم في تصحيح تلك النفوس الجاهلية برهان قاطع على أن في شريعته الإلهية العلاج الحاسم لكل أدواء البشرية المعاصرة .. وهذا ما يرمي إليه برناردشو في كلمته الحكيمة .

ولا عجب فإن فمحمد رسول الله ، قد اصطفاه لحمل رسالته الخاتمة إلى العالمين فأدبه وأحسن تأديبه ، وعلمه ما لم يكن يعلم ، وزوده بكل المواهب التي تؤهله لإنقاذ الإنسان ، وليكون بأخلاقه وبدعوته وبقيادته الأسوة المثلى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

والحديث عن إمام المرسلين المبعوث رحمة للعالمين واسع تضيق عنه المجلدات فكيف بالصفحات ، لذلك لا نجد مندوحة عن الاكتفاء بالإيجاز عن التفصيل ، وسنقف في هذا الموجز على جوانب ثلاثة من حياته الكريمة صلوات الله وسلامه عليه .

الداعية العظيم :

الدعوة إلى الله مهمة الأنبياء الذين اصطفاهم الله لقيادة الإنسانية في هذه الحياة ، ثم هي مهمة الصفوة المختارة من أنصارهم الذين لا ينفكون ينيرون دروب الناس بهداية الله على مر العصور.. وهي أصعب المهام وأثقلها لأن غايتها ضبط مسيرة الإنسان في الطريق الذي يحبه الله ، كما أوضح ذلك في كتابه الحكيم حيث يقول : [أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن] النحل ـ 125 .

ولقد حقق صلى الله عليه وسلم أمر ربه على أفضل الوجوه ، فكان الداعية الأعظم ، الذي يكون سلوكه في الدعوة صورة كاملة للحكمة والموعظة الحسنة ، والقدرة البالغة على مخاطبة الفطرة بأكمل وألطف وسائل الإقناع .

ومن البديهيات أن أول شروط الداعية إلى سبيل الله إيمانه بالموضوع الذي ينهض بالدعوة إليه ، إيماناً يستحوذ على كل تصرفاته ، فيهون عليه مواجهة العقبات التي تعترضه ، إذ يقابلها بصبر أكبر منها ، ولا تزيد العقبات إلا تصميماً على الدعوة وتجلية لحقائقها ، حتى لا يدع لمعاند حجة في إعراضه عنها .

وقد عرفته مكة منذ نعومة أظفاره صلى الله عليه وسلم بأكرم الخصال المساعدة على اجتذاب القلوب والعقول ، حتى كانت تلقبه بالصادق الأمين ، والصدق من أعظم العوامل في نجاح الداعي لأنه يثبت له الثقة في صدور الناس،فلا يرفض حديثه منهم إلا الكارهون للحق المؤثرون لمنافعهم العابرة (1).

ومن الأمثلة الباهرة على إقرار الجميع بصدقه صلى الله عليه وسلم شهادتهم له يوم كلفه ربه الجهر بالدعوة فوقف على الصفا ودعا الناس ، فأقبلوا عليه وبدأهم بهذا السؤال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ فأجابوه دون تردد : نعم ما جربنا عليك كذباً (1) .

ومع ذلك فقد وجد بينهم من يرفض دعوته ، لا تكذيباً له ولكن تعصباً لما ألفوه من الضلالات ، ولهذا يقول له ربه تطييباً لقلبه : [قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون] الأنعام 33 .

وكذلك الشأن في تلقيبه بالأمين فهو اعتراف منهم بأنه فوق التهم في كل ما يأتي وما يذر. وقد بلغ من ثقتهم بأمانته أنهم كانوا يأتمنونه على أنفس ما لديهم ، حتى أنه أخر علياً رضي الله عنه يوم هجرته ليرد ما لديه من الأمانات إلى أهلها . وقد أرشده ربه إلى الطريقة الفضلى في معالجة المؤمنين فقال : [واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين] فكان أرحم بالمؤمنين من امهاتهم ، وبذلك كان أحب إليهم من أنفسهم .

وبهذه الحكمة البالغة كان يلقى الغريب والقريب ليبلغهم رسالة ربه فيمس أسماعهم ومشاعرهم بالكلمة الطيبة التي تفتح له مغاليق القلوب .

لقي ذات يوم أحد اليثربيين الوافدين إلى مكة فأخبره بأسلوبه المبين أنه مرسل من قبل رب العالمين ، وأن الله قد أنزل عليه وحياً ليبلغه إليه وإلى سائر عباده ، فقال سُوَيْدٌ هذا : لعل الذي معك مثل الذي معي ؟ فسأله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك ؟. فقال سويد : معي مجلة ـ حكمة ـ لقمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعرضها علي فجعل يقرأ منها ، ولما فرغ قال له صلى الله عليه وسلم : إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا .. وتلا عليه بعض آيات ربه ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد عنه (2).

في هذا الحوار القصير صورة لحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض دينه على الناس ، فهو لم يرفض سماع ما عند الرجل بل أبدى استحسانه له ، وبذلك فتح قلبه لاستماع كلام الله .

ولقد كان لهذا الأسلوب الحكيم رد فعل كبير لدى أعداء الدعوة من مشركي قريش ، جعلهم يبذلون جهدهم للحيلولة بين رسول الله وبين لقائه بالغرباء القادمين إلى مكة ، فيرصدون لهم الطرق ليخوفوهم ويحذروهم من الاجتماع به ، زاعمين أن له سحراً يفرق به بين المرء وأقرب الناس إليه.

ويوم عقد هؤلاء الطغاة مؤتمرهم في دار الندوة ، لتدبير القضاء على رسول الله وعلى دعوته ، كان من الأفكار التي طرحوها هناك قول أحدهم : نخرجه من بين أظهرنا ما نبالي أين يذهب ، وكان هناك شيخ نجدي دخل معهم ليمدهم بخبرته فقال : ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به (3).

وإنما يشير هذا الشيطان إلى ذلك الأسلوب النبوي الذي أودعه الله مفاتيح الفطرة البشرية ، فما عن  يتصل بها حتى يوقظ في أعماقها روح الإيمان .

وهكذا تتجلى لنا من خلال هذه المشاهد الرائعة شخصية الداعي العظيم الذي لا نجاح لداعية إلا بالتزام سبيله القويم .

الرئيس الأعظم :

كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدى الثلاث عشرة سنة من العهد المكي مقصوراً على دعوة الناس إلى الإسلام سراً وجهراً . وعلى تربية المؤمنين الذين استجابوا لله ورسوله ، يبث في أرواحهم معاني الإسلام ، ويروضهم على أخلاقه ويدربهم على الصبر في مواجهة المحن ، التي يتعرضون لها على أيدي البغاة من طواغيت المشركين ، وعلى الرغم من البلاء الكبير الذي يعانيه منهم لم ينقطع قط عن مواصلة الدعوة إلى الله ، والاتصال بكل وافد على البلد الحرام يقرع قلبه بكلمات الله ، حتى شاء الله أن يبدأ الإسلام مرحلته الجديدة ، مرحلة الانتشار خارج مكة ، فكانت الهجرتان الأولى والثانية إلى الحبشة . ثم جاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة ، إذ هدى الله بعض حجاجها إلى الإسلام على يد رسوله ، فرجعوا به إلى بلدهم ينشرونه بين قومهم ، ثم جاء الموسم التالي بآخرين أعطوا رسول الله البيعة الأولى ، وفي العام التالي وفد العشرات منهم ليقدموا البيعة الثانية ، ومن ثم جعل الإسلام يضرب بجرانه في المدينة حتى لم يبق بيت فيها من منازل الأوس والخزرج إلا دخله الإسلام ، وتتابع أصحاب النبي مهاجرين من مكة إلى جوار إخوانهم الأنصار في المدينة ، حتى أتم الله نعمته على الجميع بهجرة رسوله الأمين ومن بقي في مكة من المؤمنين ، إلا من منعه الحبس أو الفتنة ..

وكان المجتمع اليثربي قبل الهجرة مؤلفاً من الأوس والخزرج ، وهما فرعان لقبيلة واحدة ، من أصل يماني يعملون في الزراعة ، وقد تسربت إليهم سموم العداوة والبغضاء فولدت حروباً بينهم لا تكاد تنقطع ، كلما انتهوا من وقعة هائلة مضوا يستعدون لأهول منها .

وإلى جانب هؤلاء العرب المقاتلين قبائل ثلاثة من اليهود هم قريظة والنضير وقينقاع ، وعلى داب اليهود في كل مكان كان كل نشاطهم موجهاً لإثارة الفتن بين الأوس والخزرج ليتمكنوا من استغلالها لمصلحتهم المادية ، عن طريق القروض التي يمولون بها عملياتهم القتالية ، فيستردونها من محصولاتهم الزراعية مضافاً إليها الربا المضاعف .

وما إن أطل فجر الإسلام على المدينة التي جعلت ظلمات الفتن تتقلص عن القبيلتين ، وبدأ المسلمون من الأنصار يشعرون بالتقارب فيما بينهم ، ولأول مرة منذ عشرات السنين يستمتعون بروح الأمن الذي يصفه الله بقوله سبحانه في سورة آل عمران 103 : [واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنت أعداءً فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنت على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها] .

ولم يتخلف عن هذا الخبر سوى نفر قليل من عرب المدينة ، لبث قسم منهم على شركه ريثما تتجلى له الحقيقة ، ونقم قسم آخر من ذلك التطور، وفي مقدمته رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، الذي كان مرشحاً للتويج على المدينة فحال الإسلام دون تحقيق بغيته .

وهكذا بات المجتمع المدني بعد الهجرة مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين الذين أصبحوا يؤلفون الكثرة من السكان وينضم إليهم في الظاهر المنافقون ، الذين يبلغون بضع مئات ، ثم بقية المشركين من عرب المدينة ، الذين استسلموا للواقع مع بقائهم المؤقت على عبادة الأصنام .

يقابلهم من الجانب الآخر أولئك اليهود الذين لم يجدوا من مصلحتهم انتشار الإسلام في بلد كان لهم حتى الأمس منطقة استغلال ، فأبطنوا له العداوة مع تظاهرهم بالمودة .

في هذا الجو الجديد ولدت الدولة الإسلامية الأولى ، التي شاء الله أن تكون الأنموذج المثل للحكم الصالح ، الذي تتطلع إليه الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها ، والذي يوفر العدالة والأمن والعيش الكريم للإنسان ، الذي سلب حق الحياة في ظلال طواغيت الحكام ، فليس له من رأي ولا حرية ولا كرامة ، إلا بمقدار ما يتفق ذلك مع أهوائهم ومصالحهم .

وقد نشأت هذه الدولة المثالية على غير مثال سابق من أنظمة الحكم في العالم كله ، ولا غرابة فهي دولة نبوية يقوم على رأسها رسول من الله يعمل بتوجيه من الوحي الأعلى لإقامة المجتمع الأفضل .

المسجد والشورى :

أول عمل بدأه رسول الله عقب وصوله قباء تخطيطه لمسجدها ، الذي أخبر صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه تعدل عمرة ، ولما انتقل من قباء إلى قلب المدينة بدأ كذلك أول أعماله بإنشاء مسجده المبارك ، الذي أخبر أن صلاة فيه تعدل ألف صلاة ، وكان في إنشائه هذين المسجدين قبل إقامة أي سكن له وللمهاجرين ، إشارة هامة إلى نوعية هذا المجتمع الجديد ،الذي سيكون منطلقه وغايته عبادة الله ورد القطعان البشرية الضالة إلى ربها .

ثم تلا ذلك تثبيت للروابط الروحية بين المسلمين ، فآخى بين كل فرد وآخر منهم ، حتى كانوا بهذه الأخوة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

ومن ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى تنظيم المجتمع كله ، فوضع أول وثيقة دستورية عرفها العالم ، حدد بها العلائق بين كل فريق وآخر من سكان المدينة عربهم ويهودهم ، فأقر لكل منهم حقه في الأمن والعدالة والكرامة ، وأقام كلاً منهم أمام واجبه نحو الجميع ، في مساواة تامة بين الحقوق والواجبات والتناصر، مع إقرار الفرقاء جميعاً برئاسته صلى الله عليه وسلم ، لتلك الدولة الفتية ، وأنه هو المرجع الذي يخضع الكل لحكمه عند أي خلاف .

ومع أنه رسول الله المؤيد بوحيه ، والذي لا سبيل إلى مرضاة الله إلا بطاعته ، أمره ربه بالتعاون مع أولي الألباب من المؤمنين على تدبير أمور الدولة ، وعلى أساس من الشورى التي يقررها حككم الله القائل لرسوله : [.. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر] آل عمران 159 . والمحدد لنظام الحكم في دولة الإسلام بقوله الخالد : [وأمرهم شورى بينهم] الشورى 38 . وذلك لتدريب المسلمين على ممارسة الحكم الأفضل الذي من شأنه أن يشعر كل فرد من الأمة بكرامته وبحقه الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ويتجلى ذلك قوياً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الحاكم الصالح :  (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم ..) (4).

وفي وصف الظلمة المتسلطين يقول : (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنوكم ..) (4).

وإنما يميز الخيار من الأشرار مدى التزامهم لشريعة الله في خدمة رعاياهم ، أو انتهاكهم حرماتها بالعدوان على حقوقهم وكرامتهم .

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى لرجل الدولة ، الذي يستشعر المسؤولية نحو كل فرد من رعيته ، حتى ليكون لهم بمثابة الوالد والمرشد ، يعلمهم ويساعدهم ويقيم بينهم العدل الذي تطمئن له قلوبهم جميعاً .. ويختار لهم الولاة الذين يقيمون فيهم شريعة الله بالقسطاس المستقيم ، فلا يزيغون عن الحق قيد شعرة ، ولا يحابون أحداً أو غرضاً إلا مرضاة ربهم ، لأنهم فقهوا قول نبيهم العظيم : (أيما رجل استعمل رجلاً من العشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين) . (5)

ولقد بلغ من عدالته في المسلمين أن يسلم نفسه لقصاص من يظن أنه آذاه ، كما فعل يوم بدر، إذ كان يسوي الصف فأصاب أحد أصحابه بقدح ـ سهم ـ في يده فآلمه ، فما كان منه إلا أن كشف له عن بطنه الشريف ليأخذ بحقه منه ..(6).

الحكم الصالح :

هذه بعض الأمثلة من سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في داخل دولته ، فننظر إلى بعض صورها في تعامله مع المجاورين لدولته من الخارج .

وأول ما نلاحظه من ذلك مراقبته الدقيقة لأعدائه سواء من مشركي العرب أو من الدول المحيطة بالجزيرة .. فلم يكن ليفوته أي تحرك يهدد دولته هنا أو هناك ، فمنذ أن استقر وضع المدينة بعد ذلك التنظيم العظيم شرع في توجيه السرايا نحو خطوط قريش وحلفائها ، لإشعارهم باستعداده للقائهم ، فلا يطمعوا بضرب المدينة ، وفي كل زحف قام به هؤلاء لقتاله ، في بدر وأحد والخندق ، لم يستطيعوا أن يفاجئوه على غرة بل كانوا يجدونه على أتم الأهبة لهم في كل مرة ، ولما كشف اليهود عن نواياهم الخبيثة بنكث العهد ، وتآمروا مع أعدائه لضرب الدولة الإسلامية من الخلف أثناء غزوة الأحزاب ، انبرى لهم فأجلى بعضهم عن المدينة ، وعاقب بعضهم بما استحقوه على جرائمهم ، وبذلك طهرت المدينة من كيدهم وحلفائهم المنافقين ، ثم أتم الله نعمته على رسوله بفتح مكة فانفسح له الطريق إلى تبليغ رسالته للأمراء والدول المحيطة بدولته ، فكتب إليهم يدعوهم إلى الإسلام دين الله الحق لسكان الأرض جميعاً ، وحين قام بعضهم بالاعتداء على بعض المسلمين من عرب الشام جرد لهم الكتائب ، وقاد بنفسه أكبر جيش عرفته جزيرة العرب حتى نزل تبوك ، ولم يعد إلى المدينة إلا بعد أن قذف الله الرعب في قلوب أعدائه من الروم وحلفائهم من منتصرة العرب ... ثم كان آخر كتائبه هي التي أعدها عقيب معركة (مؤتة) بقيادة أسامة بن زيد لتأديب الأعداء المتربصين على الحدود الشمالية ، وظل يؤكد على الصحابة وجوب تسييرها وهو في مرض الموت ، حتى انتقل إلى جوار ربه نهض خليفته الصديق بتنفيذ أمره ، فانطلقت تخترق مواطن القبائل حتى أدت مهمتها بإخافة المتربصين لإيقاد الفتنة ، إذ أشعرتهم بقوة المسلمين ، وأن الدولة التي أقامها رسول الله باقية على منهجه في حماية الله وتأييده . وهكذا كانت رئاسته لتلك الدولة الناشئة رحمةً غامرة للمؤمنين ، وقوة رادعة للظالمين ، ونموذجاً عملياً يلقن الرؤساء والولاة في كل زمان ومكان كيف يكون الحكم الصالح الحازم سبباً في إسعاد الرعية ، لأنه قائم على الحنان والحب والخدمة الصالحة لوجه الله ..

ومن هنا انبثقت عدالة خلفائه الراشدين ، الذين تعلموا من سياسته الحكيمة أساليب السياسة العالمية ، التي لا تزال مضرب الأمثال للمفكرين ، والصورة الكاملة للحكم الصالح في العالمين ..

القائد العظيم :

يقول ربنا تبارك اسمه : [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز] سورة الحج40 . فالحياة إذن حلبة صراع بين الحق وأهله والباطل وأشياعه ، فكل غفلة من أنصار الحق لتفوق مدعاة لتفوق المبطلين ، وتمكينهم من الاسترسال في بغيهم وفسادهم .

وبما أن دولة الإسلام القائمة وحدها بحماية الحق ، كان لزاماً عليها أن تكون دائماً على أتم الاستعداد لردع الباطل ورد عواديه .. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : [وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم] الأنفال 6 .

ولقد حقق رسول الله صلوات الله وسلامه عليه هذا الركن الهام في دولته على أتم الوجوه فلم يدع وسيلة تؤمن أسباب القوة المطلوبة إلا عمل على استيفائها .. ولم يبت ليلة قط منذ قيام الحكم الإسلامي إلا وهو على ذكر من أحول أعدائه ..وكان من هديه إيقاد شعلة الجهاد في صدور المؤمنين صغاراً وكباراً ، يحضهم على إحسان الرمي ، ويروضهم على الأعمال الحربية ، ويوجههم إلى كل ما يعوز المجاهد في سبيل الله من عناية بالصحة ، وتمرس بفنون الرياضيات النافعة ، وصبر على الأحداث المختلفة ، فكان لتربيته المثالية هذه أثرها الفعال في تكوين الطاقات المتفوقة في المسلمين جعل كل فرد منهم متأهباً لخوض الغمرات عند أول إشارة ، وعضواً كامل الانسجام في صفوف الجنود من إخوانه . الذين بلغوا الذروة في الضبط والطاعة .

ويتعذر على الباحث استيفاء صفاته القيادية صلوات الله وسلامه عليه ، ذلك لأن كل تحرك قام به في الجانب العسكري جاء غاية في الدقة والتنظيم ، مما أدهش خبراء الحروب من كبار القادة العالميين قدماء ومحدثين .. ولذلك سنقتصر على بعض النماذج من صفاته الخارقة في هذا المجال لتكون دليلاً على ما وراءها مما يصعب حصره أو إحصاؤه .

شجاعته صلى الله عليه وسلم :

الشجاعة أحد العناصر الرئيسية في مقومات القيادة الناجحة ، ولو استعرضنا أهم صور الشجاعة في مواقف القادة العالميين لرأيناها متضائلة بإزاء ما حفظه لنا القرآن العظيم والسيرة النبوية من هذه الصفة في حياته صلى الله عليه وسلم .

لقد جعل الله الجهاد فرض عين على كل قادر من المسلمين ، لحماية الدعوة ولدفع العدوان عن دار الإسلام ، فكان لزاماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الأسوة العليا في ذلك لسائر المؤمنين ، وفي هذا الصدد يقول له ربه [وقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ، وحرض المؤمنين] النساء 84 . فلو لم يجد أحداً يقاتل معه لأقدم على القتال وحده ، تحقيقاً لأمر الله ومن هنا كانت شجاعته وإقدامه في ساحات الروع هي الأسوة البالغة التي يقتدي بها الأبطال من أصحابه رضوان الله عليهم .. وهذا على بن أبي طالب ، وهو من هو في البسالة والبطولة ، يقول في وصف أثره صلى الله عليه وسلم في أصحابه : (إنا كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ..) (7).

ويوم أحد ، وقد سرى الاضطراب في جيش المسلمين بسبب ما أشيع عن مقتله ، ثبت في وجه العدو المتكاثر عليه مع قلة يسيرة من صحابته الذين كانوا حوله ، وكان ينظر إلى بطولة نسيبة بنت كعب المازنية وهي تقاتل بين يديه ، وعلى وجهه ابتسامة تنم عن مننتهى الاطمئنان ، وهو موقف لم يعرف مثله قط في تاريخ الأبطال .

وكذلك موقفه العجيب يوم حنين ، وقد أخذ المسلمون على غرة فانفضوا من حوله ، ولم يبق معه سوى بضعة أفراد ، فكان يتقدم في نحر العدو وهو يردد :

أنا النبي لا كذب          أنا ابن عبد المطلب (8)

وذات ليلة انطلق النذير في المدينة بأن عدواً دهمها فهرع الناس يتسابقون للدفاع عنها ، ولكنهم لم يكادوا يستكملون عدتهم حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً على فرس عار من خارج المدينة ، وهو يطمئنهم بقوله : لم تراعوا .(9)

تخطيطه الحربي :

والشجاعة وحدها لا تفي بمتطلبات القيادة ، بل قد نزج بالجنود في هاوية الدمار إذا لم تقترن بها الحكمة وبعد النظر، والإرادة القوية والحب المتبادل بين القيادة والجنود . وعلى هذه العناصر تبنى الخطط الحربية الناجحة بمشيئة الله .

ولقد توافر لرسول الله كل هذه العناصر مجتمعة ، ولذلك كانت خططه الحربية موضع الدراسة العميقة من كبار القادة . ولنضرب على ذلك بعض الأمثال :

في أحد رتب النبي صلى الله عليه وسلم أوضاع جيشه على أحكم منوال ، فجعل ظهره إلى جبل أحد ليمنع مقاتلة العدو من الالتفاف حوله ، وأقام على الجبل المقابل خمسين من خيرة الرماة ، وأمرهم أن ينضخوا خيل المشركين بسهامهم ، وأكد عليهم الوصية بأن لا يغادروا أمكنتهم مهما تطور سير المعركة .. وبذلك ضمن نصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة بفضل الله ، ثم بتدبيره الحازم ، حتى ولى هؤلاء الأدبار .. ولولا أن كثرة الرماة خالفت وصاته وغادرت مراكزها طلباً للغنيمة لكسرت شوكة المسلمين نهائياً منذ تلك المعركة ..

وعلى الرغم من الخسارة التي وقعت في صفوف المسلمين ، حتى لم يبق أحد منهم خالياً من الجراح ، فقد أهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في اليوم التالي أن ينهضوا معه لملاحقة العدو المنتصر، إيهاماً له بأنهم على أتم الاستعداد لاستئناف قتاله من جديد .. وبذلك أمن عودتهم لاقتحام المدينة .. وهي خطة من الحكمة تبلغ حدود الخوارق .

سرية العمل :

ومن عبقرية القيادة العظيمة الحفاظ على أسرار العمل الذي تريد تحقيقه ، صيانة له من جواسيس العدو ومن غفلات الأعوان ، الذين يسيئون التصرف عن حسن نية .

وتلك من خصائص حكمته العسكرية صلى الله عليه وسلم إذ كان من تصرفاته الحازمة أنه إذا أراد غزو جهة ما أدار حديثه عن جهة أخرى ، ليصرف الأذهان عن مراده .. فيحتفظ لنفسه بالقدرة على مباغتة عدوه .. وقد يوجه السرية في طريق ما دون أن تعرف وجهتها النهائية ، ويدفع لقائدها بخطاب يأمره ألا يطلع على مضمونه إلا في مكان معين ، فإذا قرأه عرف الاتجاه الذي يجب أن يسلكه (10).

ومما يدخل في هذا المجال من الإبداع تنوع وسائله الحربية ، وعدم التزامه الطرائق التقليدية وحدها ، كاتخاذه الخندق لمقاومة الآلاف الزاحفة على المدينة في غزوة الأحزاب .. وهو من الوسائل التي لم يعرفها العرب في حروبهم قط ..

وكان صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حريصاً على ترسيخ روح التعاون في جنوده ليكون كل منهم سنداً للآخر، ومن ذلك تدريبه أمته على سنن الشورى في كل أمر هام . وعند الإقدام على الأعمال العسكرية يطرح الموضوع الذي يهمه على أهل شوراه ليستمع إلى آرائهم ، ثم يمضي إلى غايته متوكلاً على الله ، كما فعل قبيل ملحمة بدر، حيث عرض الأمر على كبار الأنصار والمهاجرين ، فأدلى كل منهم بوجهة نظرة ، حتى استقر الرأي على الاتجاه المفضل بتوفيق الله .

وهكذا فعل قبيل معركة أحد إذ طرح قضية العمل على جمهور المسلمين شيوخاً وشباباً ، وأخذ في النهاية برأي الراغبين في الخروج لملاقاة الغزاة خارج المدينة ولما خرج على الناس في عدة الحرب تقدم الشباب إليه نادمين خشية أن يكونوا قد أكرهوه على غير ما يريد ، فكان جوابه على ذلك : (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته ـ عدة القتال ـ أن يضعها حتى يقاتل) . (11)

فكان درساً لقادة المسلمين يعلمهم ألا بد من الإدارة الحاسمة في الأمر الذي يختارون ، حتى لا يدعوا للتردد سبيلاً إلى نفوسهم .

* وبعد فهذه لمحات يسيرة عن حياة طافحة بأنواع الكمالات ، أحاطها خالق السموات والأرض بعنايته ، لتمثل القيم العليا في أتم صورها ، فإذا كان من خصائص الرؤساء والقادة والدعاة أن تنحصر مواطن عظمتهم في جانب على حساب الجوانب الأخرى من حيواتهم ، فقد استوفى محمد صلوات الله عليه وسلامه مقومات العظمة في كل ناحية من حياته ، فكان كالشمس تبهر الناظر من أي الجهات واجهها.

ولا عجب فإن خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ، وحجة الله على العالمين .. فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ..