فرج النجار

روح الدعوة

جمال سعد حسن ماضي

[email protected]

1 - أخوك فرج النجار

في يوم مشرق من أيام من أيام ربيع الاسكندرية الآخاذ عام 1976 م , جاءتني روح فجذبت روحي بلا استئذان , وفي ابتسامة ساحرة , قال : هل تعرفني ؟ ( أخوك فرج النجار ) , فوجدني أقبله وأرحب به من أعماق قلبي , فقد رأيت من أحببت لقاءه , وكنت قد رأيته في صحبة الحاج عباس السيسي من قبل , وكنت على أحر من الجمر لمعرفته , وها هي الفرصة قد حانت , فاصطحبته على الفور لمكتب الحاج عباس , ولكنني رجعت بعدما أصبحت صديقاً له بلغة الشباب فقد كان عمري حينئذ عشرين عاماً , وكان كلما جاء إلى الإسكندرية يتصل بي , وكلما تقابلنا بعدها التقت روحانا قبل الوجوه , في هذه اللقاءات البديعة :

 * وهو يحكي عن قصته مع الإمام الشهيد حسن البنا , حيث كان أحد اثنين من الإخوان طلب منهما الإمام البنا , تأجيل زواجهما إلى ما بعد الثلاثين لأن نشاطهما ومهامهما لا يستطيع أحد من الإخوان آداءها .

 * وهو يحكي عن الصلة العميقة التي كانت تجمع بينه وبين الإمام البنا , حيث كان الحاج فرج النجار آخر من رأي الإمام الشهيد قبل استشهاده , وكان يفخر بهذه الرؤية دائماً .

*  وهو يحكي عن مغامرة عدم تسليمه لنظام عبد الناصر , بأمر من الإخوان , حتى لا يتم الضغط عليه فيذكر أسماء إخوانه في النظام الخاص , الذي أسسته الجماعة لحرب الانجليز .

*  وهو يحكي عن قصة هروب دامت إحدى وعشرين عاماً , فقرار السادات جاء بالعفو عن الإخوان جميعاً عدا فرج النجار , حتي عام 1975 م , عندما ذهب يطلب من الاستاذ عمر التلمساني السماح له بالظهور , فسمح له ومن يومها عاد إلى حياة الدعوة , وعادت إلى الدعوة روحها .

2 - روح الدعوة

لقد كنت شغوفاً بالمعاني العميقة التي كان يؤكدها الحاج فرج من خلال العرض التاريخي للجماعة , ومعاصرته لأسرار الثورة والإخوان والنظام الخاص , فهو رغم كل ما تقلده من مناصب وأعمال وأنشطة في الجماعة - إلا أنه كان المربي الحاذق , والداعية الماهر .

 وقد بذلك كل من تعاملوا معه , فكان الطبيب الذي يداويك , والشيخ الذي يطهرك , والأب الذي يرحمك , والأستاذ الذي يعلمك , أو بمعني آخر نجمله في عبارة ( روح الدعوة ) , فهي اختصار لكل ما سبق في صفة فريدة حقيقية , تشعر بها إن قابلته , وتحس بها إن رأيته , وتملك أعصابك إن تعاملت معه أو عاشرته  .

3 - وإليك هذه المشاهد

التي يحكيها فؤادي , قبل قلمي , كما رأيتها وعايشتها

المشهد الأول : الحيل التربوية

في صيف عام 1978 م , كانت المعسكرات الإخوانية على مستوى القطر , تقام بمنطقة أبي يوسف بالاسكندرية , وقدّر الله لي أن أكون في معسكر على مستوي المحافظات , وكنت من الشباب الذين اختيروا عن محافظة الاسكندرية , وكنا في الخيام ليلاً , وإذا بنا ونحن مستغرقون في النوم , استعداداً لبرامج الصباح واليوم التالي , يأتي إلى الخيمة الحاج فرج , وكان مسئولاً عن المعسكر , ويبلغنا بأن هناك خطراً , ويجب علينا أن نزحف على الرمال , وفي الظلام , بدون أن نصدرأي صوت , حتى نصل إلى المسجد , وامتثل الجميع للأمر , مستشعرين الخطر الذي لا نعرف تفاصيله , ولكن الكل يزحف في مشهد آخاذ , حيث تري الكبير والصغير , الأستاذ والتلميذ , الشيخ والشاب , الكل يلبي التكليف .

وعند وصولنا إلى المسجد تضاء الأنوار , لنفاجيء بأن هذا التجمع كان بهدف الاستماع إلى محاضرة للأستاذ عمر التلمساني المرشد العام آنذاك , وكان فضيلته قد فوجيء بموعد مهم في القاهرة صباحاً , فكان عليه أن يسافر ليلاً , وقد رأي مسئول المعسكر الحاج فرج , اللجوء إلى هذه الحيلة التربوية للاستفادة من المحاضرة , والردود على أسئلة الإخوان من مرشدهم , ولك أن تتخيل هذه التجمع الذي حدث في أقل من دقائق , لحنكة وذكاء القائد الماهر بالحيل التربوية , التي تحقق الهدف بلا معاناة أو مشاكل .

المشهد الثاني : لا مناصب في الدعوة

قدّر الله أن أكون ضمن المعسكر الشتوي الذي كان يقام بمحافظة أسيوط , وكان يجمع مجموعات من المحافظات , وكنت أحد أفراد مجموعة الاسكندرية , حيث كنا ننعم بزيارة الأستاذ حامد أبو النصر والدكتور محمد حبيب , وكان من أقدار الله الكريمة بي أن يكون مسئول المعسكر هو الحاج فرج النجار ! .

وتم اختياري مسئولاً للخيمة التي تجمع محافظات الاسكندرية والقاهرة والجيزة , وبعد يومين من أعمال المعسكر , أصدر الحاج فرج النجار أمراً بالتجمع في المسجد لكل أفراد المعسكر , ثم أمر جميع المسئولين المعونين له بما فيهم نائبه , بالوقوف أمام الإخوان , وأصدر أمره بإعفائهم جميعاً عن مناصبهم , ويتولي من هو أكبر سناً العمل , وبذلك قمت بتسليم زمام الخيمة إلى الأكبر سناً , امتثالاً للأمر , ( وصار الأمر دون توقف , بل بمذاق جديد , ومهارة تجديد , ومزيد من الحيوية , وزيادة في الانتعاش ) .

وبعد يوم أصدر الحاج فرج أمره بنفس التجمع السابق ثانية , وأمر المسئولين المعزولين بأن يفصح كل واحد منهم عن مشاعره عند سماعه نبأ عزله , وانقسمنا كمسئولين إلى ثلاثة أنواع : نوع قال : لقد جئت جندياً وليس مسئولاً , فأنا جندي على كل الأحيان , ونوع أخذ الأمر بتهريج زكأن لسان حاله يقول : وهل يؤثر فينا العزل ؟! , ونوع ثالث أخذ الأمربجدية وكان متأثراً قائلاً : حمل ثقيل وارتفع عني , وتخفيف ورحمة من سؤال الله , فرصة ليخلو الإنسان بنفسه , ويستفيد من برنامج المعسكر !! .

وأياً كانت الإجابات بقي المعنى العميق , في أن الدعوة تسير بنا أو بغيرنا , وأن الدعوة لا تتوقف على أشخاص بعينهم , ومن ظن بأن الدعوة تنهار أو تتعطل أو تتأثر أو تتوقف إن ترك أحد منصبه فهو واهم , وأن الدعوة ليست مناصب , فكل الدعاة جنود الله تعالى .

وهكذا كانت المعاني تغرس في مشاعرنا , وفي قلوبنا , وفي عقولنا , بشكل أعظم مما هو مدون في الكتب , وهكذا القائد المربي يغرس المعاني في الكيان التي تحركه وترفع من همته وتدفعه , دون أن يدري , وهذا هو معني القدوة , الذي رأيناه في الحاج فرج النجار .

المشهد الثالث : الدهاء التربوي في علاج المشكلات

في عام 1984 م , انتقل الحاج فرج النجار للعمل باليمن , وفي نفس العام وبعد انتهائي من الخدمة العسكرية , اختارني الله لآداء فريضة الحج , وعندما وصلت إلى مكة المكرمة , انضممت إلى إخوان الإسكندرية برفقة الحاج محمود شكري والدكتور إبراهيم الزعفراني , وفي منى تجمع الإخوان في معسكر الحج , وكانت المفاجأة أن يكون مسئول المعسكر الحاج فرج النجار آتياً من اليمن ! , الأمرالذي لم أتخيل ولم يكن في بالي أن يأتي من اليمن لأنعم بصحبته ويكون مسئولاً للمرة الثالثة عن معسكرنا ! وكنا شباباً من بلدان مختلفة , وكان طبيعياً أن نكون مختلفين , فقد كان معنا الدكتور سناء أبو زيد رحمه الله , وكان يميل إلى الهدوء والعمل والتربية , والدكتور أنور شحاتة رحمه الله , الذي يميل إلى الفكاهة والبساطة والمرح  , والدكتور الزعفراني حفظه الله , الذي يميل إلى السلاسة والإنجاز والتيسير , فرأيت بعيني كيف كان الحاج فرج النجار يستعمل أساليب تربوية في نقل المعاني وترسيخ المفاهيم وحل المشكلات , فكان يجمعنا في رفق , ثم يحكي قصة رمزية على لسان الحيوانات في الغابة , وبينما نحن مشدوهين للحكاية تكون الإسقاطات الذكية على إخوان المعسكر , في فطنة عميقة , ودهاء مؤثر , ينهي المشكلات قبل استفحالها , في شكل راق , وأسلوب رشيق .

المشهد الرابع : ملهم الدعاة ومعلم المربين

بعد سنوات عديدة خاض الحاج فرج النجار انتخابات عام 2000 م , حيث لم يتوقف عطاؤه للدعوة , وسجل بعد هذه السنوات ذكرياته كشاهد على العصر مع المذيع اللامع أحمد منصور في قناة الجزيرة , وقبل عرضها اعتذرت القناة عن إذاعتها والسبب الذي أفصحت عنه القناة : أن الشرائط الثمانية قد سرقت من القناة !!! .

وعلى ضوء ذلك أخذت موعداً لزيارته في منزله بالمنوفية , وقد حكي لي أن أستاذا بإحدي جامعات أمريكا , جاء خصيصاً إلى المنوفية , يبحث عن الحاج فرج النجار , وعندما قابله , قال له : لقد وجدت ثمانية أشرطة فيديو في مكتبة الكونجرس الأمريكي باسم فرج النجار , فقلت لابد أن أقابله لأعرف منه سر وصول هذه الأشرطة , ومن يكون فرج النجار ؟ ! .

وفي نفس الزيارة علمت من الحاج فرج النجار كيف أن الأمن جاء إلى المنزل ليعتقل ابنه , ولكن الابن استطاع أن يهرب منهم بحيلة ماكرة !!

فقلت هذه ( روح الدعوة ) , التي تهدد الأعداء من ناحية , وتورث إلى الأبناء من ناحية أخرى .

فإن كان الحاج فرج النجار قد انتقل إلى ربه , فقد بقيت روحه , تلهم الدعاة , وتعلم المربين , وتغرس المعاني العملية , لتستمر الأجيال المؤمنة في طريق الدعوة , رغم أنف خصومها , وتآمر أعدائها .