بَقِيَ الثُّلثُ.. والثُّلثُ كَثيرُ
بَقِيَ الثُّلثُ.. والثُّلثُ كَثيرُ!
رجاء محمد الجاهوش
بالأمسِ القَريبِ كانَ القلبُ يُردِّدُ مُبتهِجًا:
وعُدتَ اليومَ يا (رمضان) بالبُشرى.. فطابَ العَوْد
وعادَت جنَّة القرآنِ والإيمانِ.. عادَ السَّـعد
وهبَّت نَسمة التَّوحيدِ حامِلةً حَديث الوَجد
فتنظمه كنظمِ العِقد.. تنثره كنَـثْـرِ الوَرد*
وبالأمسِ القريبِ استوقفني ذلك العنوان: "مَضى الثُّـلثُ.. والثُّـلثُ كثيرٌ!" لخاطرة طيِّبة ناصِحَة.
فقلتُ في نفسي: إي وربِّي كَثير..!
عَشرةُ أيَّامٍ بلياليها، وساعاتها، ودَقائقها، ولحظاتها مرَّت وانقَضَت، والنَّفس بين إقبالٍ وإدبارٍ!
أحقًّا بِـتْـنا عَلى عَتَبَـةِ العَشرِ الأواخِر؟!
فيبتسمُ القَمَر، ويخيَّل إليَّ أنَّـه يُجيبني: ألا تَلحَظينَ بَدْرِيَ الذي يَذوي شيئًا فشيئًا ليَعودَ هِلالا كما بَدأ؟!
فأناجيه ـ وأنا على يَقين أنه عَبدٌ مَأمور ـ : إلى أينَ السَّـفر؟!
تَمهَّل؛ اُمكث في سمائِنا.. لا تَرحَـل!
- الرَّحيل مُقدَّر، وما قدَّره الله كان.. فرفقًا بنفسكِ، وطوبى لِمَن تنبَّه مِن غَفْلَةٍ فسـارَعْ.
- لَمْ يَبْـقَ إلا الثُّـلث..!
- والثُّلثُ كثيرٌ.
- كثيرٌ..!!
- نعم؛ أليسَ فيه ليلة القَدرِ؟!
- بلى..
- قالَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إِنَّ هٰذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلاَ يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ" ]سنن ابن ماجة[ فعَمَلٌ في ليلة القَدْر خيرٌ مِن عَمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القَدْر.
وقال ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ: "مَنْ يَقُمْ ليلةَ القَدْرِ، إِيماناً واحْتِساباً، غُفِرَ لهُ ما تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِه" ]صحيح البخاري[
- سبحانه وتعالى..! أيغفر كلّ ما سَبَق بقيامِ ليلةٍ واحدةٍ فقط؟!
- إنَّها ليلة مُختلفة.. حدَّثنا "بشر بن معاذ" قال: "إنَّ الله اصطفى صَفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلاً ومن النَّاس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المَساجد، واصطفى من الشُّهور رمضان والأشهر الحُرُم، واصطفى من الأيَّام يوم الجُمعة، واصطفى من الليالي ليلة القَدْر، فعظِّموا ما عظَّم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عِند أهل الفَهم وأهل العَقل". ]تفسير الطبري[
-
- ما زالت في القلبِ أنَّـة، والخَوف يملأ الحَنايا..!
- قال الله تعالى: "يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ" ]الرعد:39[
ولنا في أميرِ المؤمنين أسوَة حَسنَة...
فقد طافَ "عمر بن الخطاب" ـ رضي الله عنه ـ بالبيتِ، ثمَّ دعا وهو يَبكي: اللَّهم إن كنتَ كتبتَ عليَّ شِقوةً أو ذنباً فامحُـه، فإنَّـك تمحو ما تشاءُ وتُثبِتُ، وعِندكَ أمّ الكتاب، فاجْعَله سَعادةً ومَغفرةً. ] تفسير الطبري[
- اللَّهم إن كنتَ كتبتَ عليَّ شِقوةً أو ذنباً فامحُـه، فإنَّـك تمحو ما تشاءُ وتُثبِتُ، وعِندكَ أمّ الكتاب، فاجْعَله سَعادةً ومَغفرةً.
سادَ صَمتٌ مَهِيب، قَطعْـتُهُ بطلبِ المَزيد...
- زِدْني، زادكَ الله مِن فضله.
- اخلِصي؛ اصْفَحي الصَّفح الجَميل؛ أقبِلي على الله بقلبٍ سَليمٍ؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يَغفرُ لكُلِّ مُسْلِمٍ إِلاَّ لِلْمُتشاحِنَـيْنِ، يُقال : "اترْكُوهُما حتى يَصْطَلِحا !".. واعلمي أنَّ الفَوز ليسَ لِمَن سَبَق، وإنَّما لِمَن صَـدَق.
- نَعَم، إنَّـه لِمَن صَـدَق.. لِمَن صَـدَق!
- سَأودِّعك.
- لا.. لا تَقلْ وَداعًا، بَل إلى لقاءٍ قريبٍ إن شاء الله.
غابَ القمَر، وتسلَّـلَت خيوطُ فجرٍ جديدٍ مُعلنةً بِدْءَ السِّباق، هاتِفةً: ألا هَل مِن مُشَمِّـرٍ مُجـدٍّ..؟
ألا هَل مِن مُشَمِّـرٍ إلى الجنَّـة..؟ إلى جنَّـة عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأَرْض!
* كلمات لا أعرف قائلها.