تأملات تربوية – سورة مريم (3)
تأملات تربوية – سورة مريم (3)
د. عثمان قدري مكانسي
1- الداعية مؤتمن :
تفيد كلمة " اذكر " ذلك الخطاب – خطاب التكليف – من الله تعالى لنبيه الكريم يأمره أن لا يغفل شيئاً مما أمره الله به ، فالرسول عليه الصلاة والسلام مؤتمن على الدعوة . وعليه أن يبلغها كاملة . فهي أمانة في عنقه. كما أن كل مسلم داعية في محيطه ، كبر هذا المحيط أم صغر ... وبما أنه صلى الله عليه وسلم مخاطب في القرآن الكريم من أوله إلى آخره فهذا دليل على أن القرآن ليس من عنده . فالإنسان لا يأمر نفسه أمام السامعين أو القارئين .. صحيح أنه يفكر أحياناً بصوت عال إلا أن كثرة الأوامر والتعليمات في القرآن تدل على أن الرسول المعلم ينفذ تعليمات خالق سيد آمر.
2 – المديح : أسلوب راق يستعمله المربون :
ا – للتعبير عن الرضا بما يصدر من أعمال أو أقوال تسر وتُحمد .
2 – لدفع الممدوح إلى التزام ما يرفعه في أعين الناس .
3 – يوحون به للآخرين أن يكونوا مثل الممدوحين في شمائلهم .
وقد مدح المولى عبده إبراهيم عليه السلام بصفتين لا يتصف بهما إلا من كان في القمة البشرية " كثرة الصدق والنبوة " . مع تعليل الوصول إلى هاتين المرتبتين العظيمتين . فقد كان داعية مخلصاً لدعوته لا يمالئ فيها أحداً أبداً . وهذا أبوه أقرب الناس إليه يفاتحه بها ويدعوه إليها بأكثر من طريقة تربوية رائعة . نذكر أولاهما متسلسلة بعد اسلوب المديح :
3- التحبب : يدخلك القلب دون استئذان ، ويبوئك المكانة العالية في صدور السامعين ونفوسهم . أما المتعالى فعلى العكس من ذلك ينفر الناس منه ، ويجدونه ثقيلاً على قلوبهم ... وكرر كلمة " ياأبت " متحبباً إلى أبيه ، محاولاً دخول قلبه :
يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ؟
يا أبت : إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً .
يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصياً .
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليّاً .
ولعل 4- التكرار : وهو أسلوب أصيل في التربية أفاد هنا بالإضافة إلى التحبب التأكيد والتفصيل والتنبيه غلى خطر عظيم وأمر مهم . إن الطرق يلين الحديد لكن قلب الأب الكافرأقسى من الحديد ،أو قد من صخر فلم ينفع معه الاستعطاف واللطف .
5- الترتيب والتتابع في العرض : ففي الآية الأولى من كلام إبراهيم عليه السلام
لوم لطيف لوالده وعتاب : فكيف يعبد آلهة ضعيفة ليس لها سمع ولا بصر، ولا تنفع؟! ويقدم السمع على البصر لأنه أوسع فجعل له الأولوية ، وهذا شأن القرآن الكريم في تقديم الأهم ويتجلى هذا الترتيب من حيث الأهمية في قوله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث " الآية 14 من سورة آل عمران . فالمرء يبذل المال ليتزوج فينجب البنين .. فالنساء أولاً ثم إنجاب البنين ،والمال في خدمتهما فهو الثالث من حيث الأهمية . وقدم من المال الذهب على الفضة ، وتأتي الخيل ثالث المال والأنعام رابعها من إبل وبقر وغنم .. ثم أخيراً دور الزرع ....
وبعد اللوم على الضلال يدعوه إلى اتباعه على علم : وعلى الجاهل مهما كبر أن يتبع العالم مهما صغر . فالحق أحق أن يُتبع والعلم يهدي إلى الصراط السوي - فليس سواء عالم وجهول –
ثم يأتي التحذير من الشيطان : لأنه عدو للرحمن ، يحيد بمن اتبعه عن الحق ويغويه فيغضب الله تعالى عليه ومن عصى الله كان إلى النار نهايته .
ثم يأتي التخويف من الله الذي يعاقب بالنار الشيطان ومن تبعه ، فإبراهيم عليه السلام يخاف على أبيه لأنه يحبه . وقد جاء في تفسير قوله تعالى : " ولا تخزني يوم يبعثون " في سورة الشعراء أن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة ، فيقول : يارب : إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون . فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين . وفي رواية أخرى : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني ؟ ، فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك . فيقول إبراهيم : يارب إن وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ . فيقول الله تعال : إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقول : يا إبراهيم ، انظر تحت رجلك . فينظر ، فإذا بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه، فيُلقى في النار . نعوذ بالله من سوء المصير ...
وهذا الأسلوب التدرجي من اللوم إلى الدعوة إلى التحذير إلى التخويف – أسلوب تربوي ينتقل بالمدعوّ خطوة خطوة .
6- الحلم : ولا بد للداعية أن يكون في دعوته للآخرين حليما واسع الصدر يحتوي المدعوين وإن أساءوا إليه . هذا ما نراه من سيدنا إبراهيم حين جبهه أبوه بقوله : " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ؟ " وهدده بالرجم والطرد : " لئن لم تنته لأرجمنك ، واهجرني مليا " فرد عبه بألطف كلام يدل على الحلم والروية:
" سلام عليك ، سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفياً"
أسلوب يدل على اهتمام الداعية بدعوته ومن يدعوهم إليها وعلى اهتمام المربي ومن يربيهم . إن الإجابة بالعنف والارتجال القائم على ردة الفعل يضر ولا ينفع ، فهو إن حصل لم يعد للتفاهم مكان ، ولا للنصح قبول ، وضيع الداعية الفرصة في اكتساب الناس .
وهذا ما فعله الصالحون في كل زمان ومكان وقالوه : " سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " . وهذه صفات عباد الرحمن الذين مدحهم الله عز وجل : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً "
7- والشفاعة : وهي طلب الخير للغير والوساطة لهم عند من يرجونهم . وهذا ماعناه النبي الكريم إبراهيم حين قال : " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً " إن المدعو حين يرى من الداعية اهتماماً واعتناءً يلين قلبه ثم يتقبل منه ما يقول ، ثم يؤمن بما يقول ، ثم يعتنق ذلك ويكون منافحاً عن هذه الدعوة " ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " .. كان الصحابة متحلقين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل رجل من بعيد إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إليهم صلى الله عليه وسلم ، وقال : " هذا الرجل قادم يريد مني مسألة ، وإني معطيه إياها إن شاء الله ، ولكن إذا سألنيها فاشفعوا له ، والله يُؤجركم على شفاعتكم ، وليقض الله على لسان نبيه ما يشاء " . جاء الرجل وجلس ولم ينبس ببنت شفة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألك حاجة يا رجل؟." قال : نعم يا رسول الله ، صلى الله عليك وسلم . وذكر حاجته . فكان أصحاب رسول الله يقولون :
- هو أهلٌ لفضلك يا رسول الله .
- ما علمنا عنه إلا خيراً يا رسول الله .
أحسن إليه يا رسول الله . فما عهدناك إلا محسناً .
كان الرجل ينظر إليهم مسروراً من شفاعتهم ، وقد أحبهم وشعر أنه منهم وأنهم منه . ... يا لهذا المجتمع المتحاب المتكافل ... وابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد اكتسب إلى المسلمين واحداً آخر ، وعلم أصحابه أن يناصر بعضهم بعضاً .... وقضى للرجل حاجته .
8- اعتزال الجاهلين : المسلم داعية . فكيف يدعو الناس إذا اعتزلهم؟ .. إنه يعيش بينهم ليؤثر فيهم لا ليتأثر ، يعيش بينهم مادة لكنه مع ربه قلباً وروحاً وفكراً . يعاملهم بالحسنى ويتحملهم ، ويشاركهم حياتهم إلا أنه ينأى عن مفاسدهم وكيف يعتزلهم منقطعاً عنهم تماماً والرسول الكريم يقول : " المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " ؟! فإبراهيم عليه السلام قال : " واعتزلكم وما تدعون من دون الله " هو اعتزال المسلم للمنكر والجهالة , إلا أنه حاضر بينهم يعمل على هدايتهم ، يقوم بخدمتهم والسهر على مصالحهم . وتنبيههم إلى الصواب وحضهم عليه
9- ثواب الصالحين : " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علياً " وهبه الله تعالى بعد العقم ولداً صالحاً وحفيداً صالحاً ، وزاده نعمة أن جعلهما نيين كريمين ، وأكرمهم ببقاء ذكرهم مكرما وذريتهم على مر الدهور وكر العصور ، فكل المسلمين وغيرهم من اهل الأديان يكبرونهم ويجلونهم . بل إن الله تعالى أخبرنا أنه أكرم الأولاد بسبب صلاح الآباء ، " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ." سورة الكهف . وقد قتل الرجل الصالح في سورة الكهف الغلام السيء وأبدله فتاة صالحة لأن الأبوين كانا صالحين . فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا .