لفتات دعوية وتربوية
مع صاحب الفوائد
جمال زواري أحمد ـ الجزائر
العلامة ابن القيم رحمه الله كان موسوعة متعدد التخُصصات , جمع في حياته بين حكمة الفقيه وسمت العالم وخبرة المربي وبصيرة الداعية الحكيم ودقََة المشرع وحنكة السياسي وإلهام الفيلسوف وعاطفة الأديب وروحانية الصوفي المستقيم , والمتأمل لكتبه بعمق يجد فيها لفتات دعوية وتربوية قيمة , ونظرات ثاقبة في الدعوة والاصلاح .
أخذنا كتابه الفوائد كنموذج واستخرجنا منه مجموعة من هذه اللفتات وجعلناها على شكل حوار بيننا وبينه حتى يسهل فهمها وإستيعابها والإستفادة منها والعمل بها فإليكموه:
قلنا له: ياإمام نحن في زمن كثرت فيه المغريات والمنسيات فكيف نصل إلى ظلال العز والشرف ؟
قال : من لم يباشر حر الهجير في طلاب المجد لم يقل في ظلال الشرف.
قلنا له: لكن الخطب جليل وتكاليف السير جسيمة .
قال: يامخنث العزم , أين أنت ؟ والطريق تعب فيه آدم , وناح لأجله نوح , ورمي في النار الخليل , وأضجع للذبح إسماعيل , وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين , ونشر بالمنشار زكرياء , وذبح السيد الحصور يحي, وقاسى الضر أيوب. وزاد على المقدار بكاء داود , وسار مع الوحش عيسى , وعالج الفقر والأذى محمد صلى الله عليه وسلم .
قلناله: فمابالنا إذن نعجز دوما ونتراجع ؟
قال : ألفت عجز العادة فلو علت بك همتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم , إنما تفاوت القوم بالهمم لابالصور.
قلنا له:إذا علت بنا هممنا فماهي النتيجة ؟
قال:إذا طلع نجم الهمة في ظلام ليل البطالة , وردفه قمر العزيمة أشرقت أرض القلب بنور ربها.
قلنا له:فالهمة العالية شرط كماقلت للوصول إلى المطلب الأعلى . فهل معها شرط آخر ؟
قال: المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة من فقدهما تعذر عليه الوصول إليه.
قلنا له: لكن قد تعترينا الغفلة على ذلك أحيانا تحت تأثير ترغيب أو ترهيب فما العمل؟
قال: لابد من سنة الغفلة ورقاد الهوى , ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون : دنا الصباح.
قلنا له: ماالسبيل إلى معرفة جادة الصواب في زمن تعددت فيه السبل ؟
قال: نور العقل يضيء في ليل الهوى فتلوح جادة الصواب , فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور.
قلنا له: إننا نريد التمكين ونخشى الإبتلاء ’ فهل يمكن أن يتم الأول دون الثاني ؟
قال: سأل رجل الشافعي : ياأبا عبد الله : أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال الشافعي : لايمَكن حتى يبتلى , فإن الله إبتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلمَا صبروا مكَنهم , فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتَة.
قلنا له: وإذا إعترضتنا قواطع في طريق التمكين , فما العمل ؟
قال: القواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب , فإذا خضتها إنقلبت أعوانا لك توصلك إلى المقصود.
قلنا له: نحن الآن نريد البناء فما ذا نفعل لإعلاء بنياننا وتثبيته وحفظه من السقوط؟
قال: من أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الإعتناء به , فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه , فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه والجاهل يرفع البناء من غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط .
قلنا له: بدأنا السير في طريق الدعوة بجد وإجتهاد , ولكن بعد مدَة ضعف سيرنا فلماذا في رأيك؟
قال: من إستطال الطريق ضعف مشيه.
قلنا له : الأمر إذن يحتاج إلى إيمان عميق , فما هو مفهوم الإيمان عندك؟
قال: الإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما والتصديق به عقدا والإقراربه نطقا والأنقياد له محبة وخضوعا , والعمل به باطنا وظاهرا , وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.
قلنا له: عندما نطََلع على سير السلف وهممهم نستصغر أنفسنا , ونيأس من اللحاق بهم .
قال: قيل للحسن : سبقنا القوم على خيل دهم . ونحن على حمر معقَرة فقال: إن كنت على طريقهم , فما أسرع اللحاق بهم.
قلنا له : ماأكثر الأوقات التي نضيَعها بدون مردود إيماني أو دعوي, فما عاقبة إضاعة الوقت في نظرك؟
قال: إضاعة الوقت أشد من الموت ,لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة , والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
قلنا له: ماهي أشد عقوبة يتعرض لها العبد؟
قال: ماضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله, خلقت النَار لإذابة القلوب القاسية , أبعد القلوب من الله القلب القاسي, إذا قسا القلب قحطت العين.
قلنا له: يتصور البعض أن هجران القرآن هو هجر تلاوته فقط فهل هذا صحيح؟
قال: هجر القرآن أنواع : أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به, والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه وإعتقاد أنه لايفيد اليقين وأن أدلته لفظية لاتحصل العلم, والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ماأراد المتكلم به منه , والخامس: هجر الإستشفاء والتداوي به .
قلنا له: ماأكثر مانقع في المعاصي , فما هي نتائج المعصية ؟
قال: نتائج المعصية : قلَة التوفيق , وفساد الرأي , وخفاء الحق, وفساد القلب , وخمول الذكر , وإضاعة الوقت , ونفرة الخلق , والوحشة بين العبد وبين ربه , ومنع إجابة الدعاء, وقسوة القلب , ومحق البركة في الرزق والعمر , وحرمان العلم و ولباس الذل , وإهانة العدو , وضيق الصدر , والإبتلاء بقرناء السوء الَذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت , وطول الهم والغم , وضنك المعيشة ,وكسف البال.
قلنا له في النهاية : بماذا تنصحنا في الأخير ونحن نفترق؟
قال: النُفوس الشَريفة لاترضى من الأشياء إلَابأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة , والنُفوس الدَنيئة تحوم حول الدنَاءات وتقع عليها كما يقع الذُباب على الأقذار .