قدوة القيادة في الإسلام 35
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الخامسة والثلاثون :
معرفة القائد بجنوده ، وإنزالُهم منازلهم
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن واحدة من أهم صفات القائد الناجح وواجباته ، هي معرفة جنوده ، وإعطاؤهم حقَّهم ، وإنزالهم منازلهم ، ووضع الرجل المناسب منهم في مكانه المناسب .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدوة للقادة من بعده في هذه الناحية ، وكان مثالاً رائعاً في اختيار قادته وعمّاله وقضاته وجباته.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك قوله : (( من ولي من أمر المسلمين ، فولَّى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه ، فقد خان الله ورسوله )). وفي رواية : (( من قلَّد رجلاً عملاً على عِصابة وهو يجد في تلك العِصابة أرضى منه ، فقد خان الله وخان رسوله ، وخان المؤمنين )). السياسة الشرعية ، ابن تيمية (10)
كما روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا ضُيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة . قيل : وما إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة )).
ولقد حفظ علماء الأمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا المنهج ، فهذا هو ابن تيمية رحمه الله يقول في حق السلطان :
( فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره ، لأجل قرابة بينهما ، أو ولاء عتاقة أو صداقة ، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس ، كالعربية والفارسية والتركية والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة ، أو غير ذلك من الأسباب ، أو لضغن في قلبه على الأحق ، أو عداوة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ، ودخل فيما نُهي عنه ، في قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )).
ثم قال : (( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم )).
فإن الرجل لحبه لولده ، أو لعتيقه ، قد يؤثره في بعض الولايات ، أو يعطيه ما لا يستحقه ، فيكون قد خان أمانته ، وكذلك قد يؤثره زيادة في ماله ، بأخذ ما لا يستحقه ، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات ، فيكون قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، وخان أمانته ). السياسة الشرعية (11)
ولقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العملية ، تطبيقاً رائعاً لهذه المعاني ، فقد ولَّى خالد بن الوليد رضي الله عنه ، قيادة الجيوش الإسلامية ، بعد قليل من إسلامه في العام الثامن للهجرة الشريفة ، وكذلك فعل مع عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان قد استبشر بإسلامهما ، وقال يومها لأصحابه :
(( لقد ألقت إليكم مكة بأفلاذ أكبادها )). أسد الغابة (3/382)
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه غنياً ، فأفاد منه الرسول القائد أيما إفادة ، كما هو معروف ، ولكن لم نسمع أنه كلَّفه بقيادة الجيوش، أو مقارعة الفرسان ، يوم الطعان .
وكان حسَّان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه ، شاعراً بارعاً ، طالما ذبَّ بشعره وقصائده ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن حياض الإسلام ، ولكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان إذا توجَّه لمقارعة الأعداء ، يتركه مع النساء والأطفال ، في الآطام .!!!
وكان هناك الكثير من الصحابة الكرام ، الذين يعدون من أشجع الشجعان ، ولكنَّهم بقوا طيلة حياتهم جنوداً ، ولم يصبحوا قادة ، لأن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، كان يرى فيهم جنوداً ممتازين ، ولكنهم ليسوا قادة مبدعين .
وكان من بين الصحابة الكرام من يحسن القراءة والكتابة ، فجعلهم كتَّاباً لوحيه ، ومحررين لرسائله .
وكان منهم من يتقن لغات الأجانب ، فاتخذهم سفراء لدولته .
وكان منهم إداريون ماهرون ، ودعاة متميزون ، وجباة محترفون ، وقضاة ناجحون ، فوضع كل واحدٍ منهم في المكان الذي يناسب طاقاته وإمكاناته .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعرف كل مزايا أصحابه ، فيفيد من تلك المزايا ويبرزها للعيان ، ويشجع أصحابها ، ويثني عليهم، ويستقطب تلك المزايا لبناء المجتمع الإسلامي الجديد ، فلا يضع لبنة إلا في مكانها الصحيح ، وهذا الذي مكنه من بناء أعظم جيل في التاريخ كله ، ومكَّنه من الانتصار الباهر في جميع الميادين العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية .
فلما التحق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، بالرفيق الأعلى ، كان قد خلَّف لأمته عدداً هائلاً من القادة ، والأمراء ، والعلماء ، والدعاة ، والقضاة ، والجباة ..إلخ ، الذين قادوا الأمة بكل جدارة وكفاءة ، فخرجت جحافل خيلهم من جزيرة العرب ، فانساحت شرقاً ، حتى وطئت بحوافر خيلها تربة الصين ، وغرباً ، حتى خاضت بتلك الحوافر ، في مياه الأطلسي .!!!