ادفع بالتي هي أحسن السيئة
بسم الله الرحمن الرحيم
(سورة المؤمنون: 96)
م. محمد عادل فارس
أن تقابِل الحسنةَ بالحسنة فهذا أمر مألوف، لا تخلو منه إلا النفوس الصلدة الجاسئة.
وأن تقابِل السيئة بالسيئة فهذا أمر مقبول بالجملة، لكنه دون المستوى الذي نَدَبَ إليه الإسلام، كما أنه لا يخلو –بين الحين والآخر- أن تنشأ عنه مضاعفات وردود أفعال سفيهة، أو أحقاد دفينة.
أما أن تقابل السيئة بالحسنة فهو الأفق العالي الذي يليق بالمسلم المتطلع إلى ما عند الله، )وما عند الله خيرٌ وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون(. الشورى: 36.
**********
لا تخلو حياة الأصدقاء والأصحاب والجيران والشركاء ... من خلافات، نتيجة اختلاف القناعات والأهواء والأذواق والثقافات... ثم إن هذه الخلافات تُدْفن في لحظتها، أو تدوم مدّة ما، أو تتفاقم، أو تتحول إلى أحقاد... وذلك بحسب أخلاق هؤلاء المختلفين ومواقعهم وخلفياتهم...
ولقد علَّمنا الإسلام أدب المعاملة، ودلَّنا على ما نطوِّق به خلافاتنا.
وأول ذلك أن دعا المؤمنين إلى الحب في الله، والتزاور فيه، والبذل فيه، وجعل للمتحابين في الله منزلة لا ينالها إلا الأنبياء والصدّيقون. وأكد ذلك بأن دعا إلى كل ما ينشئ هذا الحب ويعمقه، كإفشاء السلام، وتقديم الهدية، وبذل النصح...
وأَمَرَ المسلمَ أن يحترز ابتداءً من كل تصرُّف يسيء إلى إخوانه، أو يَدَعُ للشيطان مدخلاً إلى قلوبهم... نقرأ هذا في قول ربنا تبارك وتعالى: )وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسَنُ. إن الشيطان ينْزَغُ بينهم(. فإن تحرّي القول الحسن يقطع نزغ الشيطان.
ونهى المسلمَ عن أسباب الخصومة والعداوة، كالسباب وفُحش القول، بل نهاه عن التمادي في المزاح، فضلاً عما نهى عنه من غيبة وكذب وخداع، وبيعٍ على بيع الأخ، وخطبةٍ على خطبته، وسوء ظنّ به...
وبهذه التوجيهات يجتث الإسلام كل أسباب الخصومة والعداء، ويحسم كثيراً من أسباب الخلاف.
فإذا وقع بعد ذلك خلاف، فالغفران لمن أغضبك، والعفو عمن أساء إليك، والتخلُّق بخُلُق الذلّة على المؤمنين، وخفض الجناح لهم، ومقابلة السيئة بالحسنة... فكل ذلك مما يمحو آثار العداوة، ويغسل القلوب، ويحفظ ليها صفاءها، فلا يبقى مسلم يبيت وفي قلبه غِلّ على أخيه.
وهذه التربية الإيمانية ترقى بالمسلم إلى آفاق عالية، حتى يرى أن مخالفة هذه التوجيهات تسيء إليه كما تسيء إلى أخيه الذي خالفه، بل هي إساءة –من بعيد- إلى شعور النبي r يوم القيامة وهو يلقى بعض أبناء أمته قد أُثقلوا بالذنوب، ولم تَسَعْهم سماحة إخوانهم. وإلى هذا المعنى اللطيف يشير بعض أهل الفضل حين يقول:
من نال منّي أو علِقْتُ بذِمَّتـهْ سـامحتُهُ لله، راجي منَّتـهْ
كي لا أعوِّق مسلماً يوم الجزا ءِ، ولا أُسيءَ محمداً في أُمَّتهْ
وإذا كان المسلون جميعاً مخاطَبين بهذه التوجيهات، فإن الدعاة إلى الله هم مِلح الأرض، ومنارة الأمة، فأولى بهم أن يتخلَّقوا بأخلاق الإسلام العالية، فيحملوا في صدورهم قلوباً نقية، وبين جوانحهم نفوساً صافية.
ويمكن أن نضرب مثلاً باثنين من دعاة الإسلام، وفي ظروف السجن القاسية، حيث تضيق الصدور، وتتأزم النفوس.
أما المثال الأول فمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد تعرَّض لإيذاءٍ من بعض مخالفيه، فأرسل رسالة إلى محبيه يعلمهم كيف ينبغي أن يعاملوا هؤلاء المخالفين. يقول رحمه الله:
(... تعلمون –رضي الله عنكم- أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا، بشيء أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحد منهم ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال، والمحبة والتعظيم كلٌّ بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً:
"فالأول مأجور مشكور، والثاني –مع أجره على الاجتهاد- معفو عنه، والثالث: فالله يغفر له ولسائر المؤمنين".
"لا أحب أن يُقْتصَّ من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه، أو عدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين...).
وأما المثال الثاني فمن أحد العلماء الدعاة المعاصرين، وهو الشيخ محمد خير الزيتوني رحمه الله،فقد حلَّ في سجن القلعة، وهو السجن ذاته الذي حلَّ فيه من قبلُ ابن تيمية، وتعرّض مرّات لأذى من بعض زملاء السجن، لاختلاف في الأذواق والمشارب، فكان يصفح ويسامح، بل كان فوق ذلك يقابل كل أذىً بإحسان وإكرام عجيبين، فإذا سنحت له فرصة لإكرام مادي أو معنوي، كان يبدأ بهؤلاء الذين تعرضوا له بالأذى... ومرة بعد مرة، ظهرت بركةُ قول الله تعالى فيهم وفيه: )ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم(. سورة فصلت: 34 و 35.
بقي أن نقول من وحي موقف هذين العالمين وأمثالهما: إن الكبار العظام لا يحملون الحقد ولا يعرفون طريقه. وقديماً قال عنترة بن شداد:
لا يحمل الحقدَ من تعلو به الرتَبُ ولا ينال العُلا من طبعُهُ الغضبُ
ما أجمل أن يفيض قلب المؤمن بالحب لإخوانه، فيحسن لهم ولا يسيء، وإذا صدرت من أحدهم إساءة فالعفو والصفح والمغفرة والإحسان، حتى لا يتعكر صفو المودّة الخالصة، فيكون المؤمنون –في هذه الدنيا- متشبهين بأهل الجنة: )ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سُرُر متقابلين(. سورة الحجر: 47.