خواطر في الحج
عدنان عون
دار الزمان دورته، وتعاقب فينا الليل والنهار، وعادت شهور الحج و(الحج أشهر معلومات) تحمل إلى المسلمين ذكرى الحقيقة الإيمانية الكبرى ذكرى التوحيد وذكرى فريضة الحج التي تجرد المؤمن لله، وتنهض به للسفر إلى بيته الحرام ملبياً نداء الحق الذي تولى إبلاغه للناس ابراهيم عليه السلام "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق"·· كيما يتوجهوا إلى مركز الجاذبية الإيمانية، الكعبة المشرفة·· مستعلين على جواذب الأرض من أهل وتجارة ووطن·
ومن الذي لا يهيجه هذا النداء؟· وتحركه هذه الأشواق إلى مراتع الإيمان وديار الإسلام، ومشاهد الذكريات العظيمة الجميلة التي خلدتها مسيرة الإيمان عبر الأجيال التي آمنت بالله، واستجابت لرسله·
إن أول ما يمر بالخاطر ذكرى هذا البناء يوم تولاه ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام) "وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" ليظل المعلم الواضح لحقيقة التوحيد والدين الخالص في التاريخ والوجود الإنساني·
وتتوالى الذكريات، فإذا المؤمن أمام موقف من روائع مواقف الإخلاص والثقة بالله والتوكل عليه مثلته في تاريخ هذا الركب المؤمن السيدة (هاجر) يوم حملها ابراهيم وصغيرها إلى هذا الوادي المبارك وحيدين فإذا الإيمان مستعلياً في نفسها على كل هواجس النفس ومخاوفها لتقول لزوجها: آلله آمرك بهذا يا إبراهيم؟ وما إن أكد لها ابراهيم الأمر حتى تتركها في فم الزمان كلمة هادفة مضيئة تنير للأجيال طريق التوكل والثقة بالله: إذن لا يضيعنا الله·· وحاشى لله أن يضيع من وثق به وتوكل عليه وقصد جنابه·
ثم تتوالى الذكريات، فإذا صور ومواقف من تاريخ عظيم صنعه للإنسانية الإسلام، وخلدته الأمة التي كانت خير الأمم وأعظمها·· وأعظم ما أنت واجد فيه هذا التغيير العجيب والفريد الذي حرر الإنسان من كل ما علق به من أوضار الجاهلية، وأباطيل الوثنية، ومظاهر الشرك بعدما كادت البشرية أن تضيع في التيه العقدي والفكري·· وكان فضل محمد (صلى الله عليه وسلم) على البشرية عظيماً اذ استنفذها من متاهات الضلالة وتيه الضياع·
إنه تاريخ صنعت أحداثه ومواقفه أجيال الإيمان في أمة الإسلام، وإنه لأول مرة ــ بعد ضلال البشرية ــ يتحرر البيت العتيق من أوثانه، ومظاهر الوثنية· ولأول مرة تتهذب العبادة فيه وتخلص لله وحده·· وتتلألأ في سمائه وفي ساحته الحقائق والفضائل·· وهكذا تتوضح معالم الطريق إلى الله جل في علاه "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون"·
ذكريات وذكريات ما أكثرها وما أروعها تتوالى في مشاهد لا يملك المؤمن إذا ما رآها أو ذكرها إلا أن يكبر الله ويحمده على ما هداه اليه من الحق والخير وأن تفيض العبرات منه كلما رأى الكعبة، أو وقف على إرث من إرث ابراهيم ومحمد (عليهما الصلاة و السلام)·
إنه ــ ولا ريب ــ تاريخ عريض مليء بالأحداث والمتغيرات، تختصره هذه الفريضة في أيام معدودة يمضيها الحاج في زيارة المشاهد، وأداء المناسك، فتأمل عظمة هذا الدين وتاريخه !·
وستبقى هذه الفريضة بكل مناسكها ومشاعرها ميداناً للتطبيق العملي لمبادئ الإسلام وحقائقه، تنصهر في مؤتمرها الإسلامي الفريد كل الفوارق والطبقية والألوان وتخفت في ساحاته كل الأصوات والنزعات، ليعلو في قلوب المؤمنين وواقع حياتهم صوت الإيمان والإخاء والمساواة، وليتجسد مقياس التفاضل الإيماني دون سواه "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"·
وحق لتاريخ أضاء للبشرية معالم حياتها أن يظل مخلداً في ذاكرة الأجيال· وحق لأمة صنعت هذا التاريخ العظيم أن تفخر وتشمخ بإيمانها وريادتها· ونسأل الله أن يلهم أمتنا رشدها كيما تستثمر هذا الموسم العظيم والمؤتمر الكبير، تجميعاً لصفوفها، والتزاماً بوحدتها، واستثماراً لطاقات وقدرات أبنائها ــ لتعود ــ كما كانت ــ خير أمة أخرجت للناس·
كما نسأل الله جل جلاله أن يسدد على طريق الحق والخير· خطى ولاة أمور المسلمين حملاً للأمانة، ونهوضاً بالأمة، ونشراً للدعوة..