التكافل

محمود القلعاوي

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

[email protected]

 

التكافل صفة شاملة لصور كثيرة من التعاون والتآزر والمشاركة في سد الثغرات ، ويتمثل التكافل  فى تقديم العون والحماية والنصرة والمواساة ، إلى أن تُقضى حاجة المضطر ، ويزول همّ الحزين ، ويندمل جُرح المصاب ، ولا ينعدم خلق التكافل إلا حينما تسود الأنانية ، وتفتر المشاعر الأخوية ، ويستغرق الناس في همومهم الفردية ومشاغلهم الشخصية .

وقد تآزر بنو هاشم مسلمهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا تقتله قريش ، وانحازوا به إلى شعب أبي طالب ، وقاطعتهم العرب وحصروهم في الشعب ، وكتبوا صحيفة المقاطعة وعلقوها في الكعبة ، إلى أن اندفع بعض رجال قريش لاستنكار الحصار المضروب على بني هاشم في شعب أبي طالب بدافع خلق التكافل - رغم جاهليتهم - ولم يطمئنوا حتى نقضوا الصحيفة الظالمة التي قضت بهذه المقاطعة .

وفي واقعنا كثير من صور التكافل لأهل الباطل فيما بينهم ، وبعض صور تعاطفهم مع المسلمين ، بدوافع إنسانية أو قومية أو سياسية ، فهل يكون ذلك حافزًا إضافيـًا للتكافل مع أخيك المسلم وأنت به أولى ؟

كما أن السيدة خديجة رضي الله عنها لما أرادت أن تخفف عن النبي صلى الله عليه وسلم تخوفه من نزول الوحي ، اتخذت من صفة التكافل التي اشتهر بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة دليلاً عقليـًا على أن الله لا يخزيه ، فقالت :- (  كلا والله ، ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ) رواه البخارى .

والمهاجر من أحوج الناس إلى أنصار يتكافلون معه ، لغربته وفقره وانقطاعه ، وقد ضرب أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأمثلة في التكافل مع إخوانهم المهاجرين ، وكان منهم أن أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقسم النخل بينهم وبين المهاجرين ، فقال : لا ، فقال الأنصار :- تكفونا المؤونة ، ونشرككم في الثمرة رواه البخاري

وبذلك عمل بعض المهاجرين في بساتين الأنصار ، وقاسموهم الثمار ، وحُلّت مشكلة البطالة والفقر ، وكان من صور تكافلهم أن ( المهاجر كان يرث أخاه الأنصاري دون ذوي رحمه ) رواه البخاري ، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها بينهما ، وكانت مرحلة استصفت فيها النفوس ، وأخلصت لله تعالى ، ثم نُسخ ذلك .

وهذا التكافل لا يبرز بأسمى صوره ، إلا كلما تعمقت معاني الأخوة والإيثار ، واندثرت جذور الأنانية والاستئثار .

سداد دين المدين

ومما يمكن أن يتميز به مجتمع المسلمين من صور التكافل :- إعانة المدين ( الغارم ) بسداد دينه ، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه الفتوح، واستغنى بيت مال المسلمين ، قال :- ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن تُوفي من المؤمنين فترك دينـًا ، فعليَّ قضاؤه… ) رواه البخاري .

دفع دية المقتول

ومن صور التكافل الشرعية ، التكافل مع القاتل في دفع دية المقتول ، حيث تكلف عصبته وعشيرته الأقربون الموسرون بتحمل دية المقتول ، مواساة وإعانة للقاتل خطًأ ، الذي قد تأتي الدية على كل ماله فترهقه ، ولو عجزت عصبته ، أو لم يكن له عصبة ، دُفعت الدية من بيت المال .

استنقاذ الأسير

ومن أروع صور التكافل :- استنقاذ الأخ الأسير بكل غالٍ وثمين ، وقد روي أن سلمة بن الأكوع غزا " هوازن " مع أبي بكر رضي الله عنه فنفله جارية من بني فزارة من أجمل العرب ، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، فقال له :- لله أبوك ، هبها لي ، فوهبها له ، ففادى بها أسارى من أسارى المسلمين كانوا بمكة .. رواه أبو داود .

كفالة الأرملة واليتيم

وحين يفرز الجهاد أرامل وأيتامـًا ومعوّقين ، فليس من الوفاء تغافلهم بعد أن قدم أولياؤهم الروح في سبيل الله تعالى ، ولذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم :- ( الساعي على الأرملة والمسكين ، كالمجاهد في سبيل الله ، أو القائم الليل الصائم النهار) رواه البخاري ، بل وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  كافل اليتيم بأن يكون رفيقه في الجنة .

التكافل النفسي

ولا ننسى أن نشير إلى التكافل النفسي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبّر عنه بالإجمال فقال صلى الله عليه وسلم :- ( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ). رواه مسلم .

وقد بلغ من تكافل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتفقد صحابته الذين لا يراهم ، ويسأل عن مشاكلهم ، وأمثلة ذلك في السنة كثيرة ، نختار منها ما ورد في قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وفي آخرها أنه جاءت النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المغازي مثل بيضة الدجاجة من ذهب ، فتذكر سلمان  رضي الله عنه وأنه بقي عليه مال ليُعتق نفسه ، فقال صلى الله عليه وسلم :- ما فعل الفارسي المكاتَب ؟ ، فأرسل صلى الله عليه وسلم إليه واستدعاه ، فلما جاء سلمان قال له النبي صلى الله عليه وسلم :- ( خذ هذه فأدّ بها ما عليك يا سلمان ) رواه أحمد ،  

وكم يكتسب الداعية قلوب المدعوين حين يرون أنه يفكر بهم ، ويسعى في أمرهم ويهيئ الخير لهم ؟!

ومن التكافل الشعوري :- تفقد حال الأخ والاطمئنان على ظروفه ، وتطييب خاطره ، فقد ورد أن ثابت بن قيس بن الشماس لمّا نزل قوله تعالى :- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) سورة الحجرات: 2، قال :- ( أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حبط عملي وأنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينـًا ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا له :  تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ؟ ، وأخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :- لا ، بل هو من أهل الجنة ) رواه أحمد ، وهكذا يشعر كل فرد بقيمته وكل مدعو بمنزلته في نفس مربيه .

ومن أسمى الأخلاق :- أن يُقابَل التكافل بعفة نفس المحتاج ؛ كما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين رفض تقاسم المال والزوجتين مع الأنصاري ، وقال له :- بارك الله لك في أهلك ومالك ، أين سوقكم ؟ رواه البخاري ، وطلب أن يدله على السوق ليعمل بيديه ويعتمد على نفسه ، بل كانت ظاهرة عامة بعد خيبر لما استغنى المهاجرون ؛ إذ ردوا إلى الأنصار ما كانوا أكرموهم به ، فقد ورد أنه :-  لما فرغ من قتال أهل خيبر ، فانصرف إلى المدينة ، ردّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم من ثمارهم ... رواه البخارى .

وإن مجتمعـًا يشيع فيه التكافل ، لهو المجتمع المتماسك الذي يستطيع أن يجاهد في سبيل الله تعالى صفـًا كأنه بنيان مرصوص ، بينما تجد مجتمع الأنانية والبخل متصدعـًا من الداخل ، تأكله العداوات والأحقاد قبل حراب الأعداء ، فأي المجتمعين نختار لأنفسنا ؟! وبأي الأخلاق نتحلّى ؟!