من حجنا لحياتنا

محمود القلعاوي

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

[email protected]

الكعبة .. بيت الله الحرام .. الصفا والمروة.. جبل عرفة .. بئر زمزم .. ما إن يسمع الواحد منا أحد هذه الأسماء أو يرى صورها بإحدى القنوات الفضائية حتى يجد قلبه يرقص طربًا ، ويجد الشوق يملأ وجدانه ، ولسانه يلهث بالدعاء بأن يرزقه الله حجةً إلى بيته .. يجد أمنية قد ملأت عليه وجدانه وكل مشاعره بأن يكون ممن يشاهدون هذه الأمكنة مع هذا الجمع الغفير .. يجد الروح تخفق نحو كل هذا .. الحج يا إخوتي .. فيا رب ارزقنا حجةً إلى بيتك تغفر بها ذنوبنا وتكون آخر عملنا في الدنيا .. والحج تلكم المدرسة الجامعة التي نتعلم منها الكثير والكثير ، وقد حاولت أن أجمع بعض الدروس التي نحتاجها في أيامنا هذه :-

انتظر الفرج :- يا من تشكو الهمَّ والغمَّ .. يا مَن تشكو الدين والكرب .. يا مَن تشكو مشاكل الأولاد .. يا من تشكو ضيق اليد .. يا من تشكو غمَّ المعصية وبُعد المنال .. يا مَن ضاقت عليك الدنيا .. يا مَن تتمنى القرب من ربك وتراه بعيد المنال .. الفرج قادم مهما تأخَّر ومهما ظهر بُعده في الأفق .. ألا ترى الحجيج وقد زاد الزحام والزحام..  في السعي والطواف ورمي الجمار .. ألا ترى التعب والنصب في ذهابهم وإيابهم .. ألا ترى الإرهاق يعلو الوجوه والأبدان .. حتى يظن الظانّ أنه لا انصرافَ ولا راحةَ من هذا كله .. فيصابُ البعض بالسآمةِ والضجر من شدةِ هول الزحام ومن شدة التعبِ والنصب .. بل قد يُضمر في نفسه ألا حجَّ بعد هذا العام مما رآه في هذا العام .. ولكنه بعد مدة يسيرة من كل هذا .. يأتي الفرج .. ثم تنتقل الجموع .. وتسير الأمور .. ويذهب التعب والنصب .. فسبحان مُفرِّج الكروب

من هنا يبدأ النصر :-  خلقنا الله على ألوان وألسنة وأشكال.. أحمر وأسود.. أسود وأبيض.. عرب وعجم.. ومع كل هذا ترى في الحج عجبَ العجاب.. الجميع يلبي تلبيةً واحدةً.. يتجه إلى قبلةٍ واحدة.. إلى ربٍّ واحد.. مناسكهم واحدة.. زمانهم واحد.. ربهم واحد.. شعيرتهم واحدة.. ثيابهم واحد.. أليست هذه هي الوحدة والقوة يا مَن تنادون على التجمع والوحدة.. أي جمعٍ بعد هذا الجمع.. وأي وحدة بعد هذه الوحدة.. إذن من هناك البداية.. من على جبل عرفة تكون البداية للنصر والتمكين.. بعد الوحدة والأخوة والائتلاف

أذن وعلى الله البلاغ :- لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت ، قيل له :- أذن في الناس بالحج .. قال :- يا رب وما يبلغ صوتي؟ ، .. قال :- أذِّن وعليَّ الإبلاغ .. فصعد إبراهيم خليل الله الجبل ، وصاح :- أيها الناس إنَّ الله أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحُجّوا ،  فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء :- لبيك اللهم لبيك  ، إعلامٌ ما أجمله أذِّن وعلينا البلاغ .. أيها الداعي بلِّغ وعلى الله النتائج ولا تقل وكيف يُصلي وهو على ما هو عليه .. يا طالب الرزق اسع وعلى الله الرزق ولا تقل وكيف يأتني الرزق وأنا على حالي هذا .. أيها العاصي عدّ لربك واطرق بابه ولا تقل لن يغفرها لي فهي كثيرة .. إذن فليكن شعارنا في حالنا ومآلنا  :- أذن وعلى الله الإبلاغ  .

السلام ما أعظمه من نعمة :-  قال الكريم في كتابه المجيد :- ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )   سورة الحج : 28 صدق الله العظيم في كل ما قال ويقول .. انظر إلى فضله وكرمه وجوده وعطائه أنزل لنا السلام في دين الإسلام .. لنا أن نحج ومع هذا نطلب الرزق والتجارة وطلب المال .. فلنعش للآخرة في الدنيا .. فلتكن الدنيا قنطرتنا للآخرة .. فلأخذ حظي من الدنيا ما دام حلالاً وأنا في طريقي لربي .. فلأجامع زوجتي ناويًا رضا ربي .. فألاعب أطفالي مقتديًا بنبيّ صلى الله عليه وسلم .. فلأذهب لعملي طالبًا رضا ربي قبل أن أطلب رزقي .. الله أكبر يا إخوتي .. إنه السلام .. السلام بين الدنيا والآخرة .. السلام بين الروح والجسد .. السلام بين ما أريده وما يريده ربي..  السلام بين قلبي وعقلي .. السلام يا سادة .

شارك في هذه السيمفونية: -  الذكر مقصود العبادات الأعظم .. والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج .. فما شُرع الطواف بالبيع ولا السعي بين الصفا والمروة ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله .. الذكر الذي نتعوده في الحج هو ديدن كل المخلوقات .. هذه السيمفونية المتكاملة .. الكل يسبح بحمد ربه .. الجميع يشارك في ذكر خالقه .. الحجر والشجر .. السماء والهواء .. الجميع يلهج بالذكر .. فلماذا تشذ عن القاعدة ؟! .. ولماذا تبعد نفسك ولا تشارك في هذا اللحن المعزوف؟ .. شارك أيها الكريم في موكب الكرماء :- ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) سورة الإسراء : 44، فليكن الحج هو بدايتنا .. بدايتنا في المشاركة في هذه السيمفونية المعزوفة .. سيمفونية الذاكرين .. فلنشترك مع كل المخلوقات في ذكر الله  .

 اهرب من الموت البطيء :– صارت طامتنا هي كيف نضيع أوقاتنا .. مع أن الوقت هو رأس مالنا بل هو حياتنا .. وهذا الحج يأتي ليعلمنا كيف نقضي الكثير من الأعمال في وقتٍ قصير .. في أيام محدودة قد لا تتجاوز الأربعة تذهب لأمكنة كثيرة وتؤدي عبادات أكثر .. إذن فلننفض عن أنفسنا غبار الكسل .. ولنحاول تفجير الطاقات الهائلة التي بداخلنا.. ولنستفد من أوقاتنا قدر استطاعتنا.. فما الاستسلام للفراغ إلا موت بطيء

في رياض الإيمان :- الله أكبر على رياض الإيمان هذه .. ما ألذ هذه اللحظة التي يعيشها الحاج في حجه طائعًا لله .. هي هي نفس اللذة التي يحسها الصائم لربه .. هي هي نفس اللذة التي تملأ الوجدان عند العودة من صلاة الفجر .. هي هي نفس لذة الاعتكاف .. يا سادة لذة الإيمان وحلاوته .. والله لذة لا تدانيها لذة مهما كانت.. أيها العشاق .. أيها المحبون .. أيها المتلذذون بالمعصية مهما كانت لذتكم لن تداني ولو من بعيد لذة الأنس بالله .. لذة الطاعة .. لذة صلاة الفجر .. أيها الناظر للحرام لن تداني لذتك لذة غض النظر عن الحرام .. أيها الشاب الباحث عن الحب الحرام ولذته ، لذة الحب في الله أعلى وأطهر .