العشر أيام تربية

ومازالت الفرصة أمامنا !

جمال سعد حسن ماضي

[email protected]

انتشر بيننا هذا السؤال : كيف نحقق الربانية ؟ وها هي أيام التربية قد جاءتنا , فالتربية في حقيقتها منسوبة للرب , وقد عرفها العلماء بأنها الوصول بالأمر شيئا فشيئا إلى الكمال , ولما كان الكمال لله وحده اتفق خبراء التربية على عبارة : مناشدة الكمال , ومن ثم كان العزم والتشمير والاجتهاد والسعي والعمل والتصميم والإرادة هي الطريق الوحيد لمناشدة الكمال , وبالتالي تحقيق التربية .

ومعني أيام التربية في مجمله هو التعرض لنفحات الله وعطاياه المستمرة

, فنفحات الله ومننه وأنواره نازلة نازلة , فإن وجدت فلوبا متيقظة وأرواحا نشطة ونفوسا فتية , استقرت بها ونال صاحبها الرضا , ورحبت الدنيا في قلبه , واتسع الكون في روحه , فنهض نحو التغيير والسلوك القويم , ولذلك كانت وصية المصطفي صلي الله عليه وسلم : ( إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها ) , والتعرض لها هو العزم والإرادة والتصميم في توجهنا إليها , فهي فرصة للاغتنام , فالغنيمة في الحرب لا تكون إلا بعد عناء ومعاناة , كذلك هذه الأيام المباركات .

وقد تأملت في الطاعات الكثيرة : من صيام وقرآن ونوافل وسنن وصدقات واستعداد للعيد وإسعاد للمجتمع وتقديم الخدمات واتصال دائم بالله من قيام ليل ومناجاة وذكر ودعاء ..... فقلت : إن الله فضل هذه الأيام فأقسم بها في قرآنه : ( والفجر وليال عشر ) ودعا لمناجاته فيها : ( واذكروا اسم الله في أيام معلومات ) يقول ابن عباس : إنها العشر الأوائل من ذي الحجة .

 فقد جاء كل ذلك من أجل هدف يريده الله لكل مسلم في حياته اليومية , وهي على صعيدين :

الأول : ما نراه من مشاهد الأمة وقد جاءت من كل فج عميق

لتؤدي مناسك الحج الواحدة , وتعظم شعائر بعينها , ثم يعودون وكل منهم مولود جديد ينبؤ بميلاد جديد للأمة , فنتعلم من المشاهد أمرين بهما نبدأ عاما جديدا بصفحة بيضاء وهما :

1 – الانشغال بالآخرة

وهو ما يخفف علينا عمل الدنيا والسعي والاكتساب والكبد , وكيف نجعل ذلك بابا للآخرة مصداقا لقول السلف : ( من نافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة ) فها هو وفد الله لا ينشغل إلا بالآخرة , وهذه رسالة واضحة لكل مسلم لم يحج , وهذا الانشغال بالآخرة هو منة من الله وفضل لعباده : ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكري الدار ) .

2 – التشمير للجنة

ففي كل ما نراه من أعمال الحج ومشاهده مشقة وعناء ومكابدة في القدوم والطواف والمبيت بمنى والسعي ورمي الجمرات وكأنها تقول لنا في رسالتها : الجنة الغالية تنتظرك فماذا أعددت لها ؟!.

كان النبي يقول لصحابته : ألا من مشمر للجنة ؟ فيقولون : نحن المشمرون لها ؟ فبقول لهم النبي : قولوا إن شاء الله .

أي بالاجتهاد والتشمير وليست بالراحة والدعة , وإن كان هذا الرد النبوي لصحابته الكرام فبماذا نحن نتلقى هذا الرد النبوي وحالنا كما نري ؟

الصعيد الثاني : على مستوى حياتنا اليومية

فهذه أيام تربية ننشد فيها الكمال عسى الله أن يكتب لنا المغفرة فهي الطريق الأوحد إلى الجنة يقول تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعددت للمتقين ) , ونجمل أيام التربية في التالي :

1 -  تربية النفوس :

بهذه الطاعات وأثرها في النفس , فتعطينا طاقة وزادا نواجه به معارك الحياة , إن الطاعة لا تتحقق إلا حينما تكون خالصة لله , ويكون لها أثر في المجتمع والحياة , فإن لم يكن لها أثر في تغيير السلوك وإصلاح المجتمع فيجب مراجعة إخلاصها لله , وإن لم يكن لها أثر في الأنس بها والانشراح لها وزيادة الايمان وانفساح القلوب , فيجب مراجعة إخلاصها لله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا ) .

فإن تحققت النفوس بالأمرين السابقين كان يسيرا عليها طاعة الناس كما أمر الله مثل : بر الوالدين وطاعة الزوجة لزوجها والمرءوس لرئيسه والجندي للقائد والتلميذ لأستاذه , وهذا هو سر قول النبي صلي الله عليه وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وبذلك نجعل هذه الأيام تربية للنفس على الطاعة في مواجهة معارك الحياة .

2 – تغيير نمط الحياة

الملل والانسحاب والسلبية والهزيمة الداخلية وضعف الايمان وغير ذلك مما بات شكوي الناس اليوم , يرجع إلى رتابة حياتهم وعدم التجديد , فالقلوب تصدأ , والأرواح يخبو ضوءها , والنفوس تتراجع وتضعف , فلماذا لا نقوم بنسف المعين لكل هذه المظاهر؟ , بتغيير نمط حياتنا , وها هي فرصة هذه الأيام , بهذا النوع التربوي الفائق فأبواب الطاعات مفتحة و أنواعها متغيرة , تتناغم مع الكون المتغير الطائع دائما , فتحدث حالات انسجام , بعدها يفوز كل مسلم بتغيير عاداته , والتحكم في انفعالاته , والسيطرة على نفسه , مما يجعله يبدأ عاما جديدا بنشوة المنتصر على نفسه , ومنها يكون انتصاره سهلا على أزمات الحياة .

3 – تواصل مع الله تعالي

إن كان النبي قد حدد ( العمل الصالح ) بعلو أجره على الجهاد في هذه الأيام , فما ذلك إلا لأن العمل الصالح له ما قبله وما فيه وما بعده , فما قبله نية وهمة , وما فيه صدق وعدم رياء , وما بعده خوف ورجاء في أن يقبل الله العمل , وهكذا يكون المسلم في كل لحظاته أمام الأبواب المفتحة : ينقلها إلى عبودية خالصة لله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) وبهذا المفتاح تتحول العادات إلى عبادات , والإداريات إلى طاعات , والأعمال إلى عبودية خالصة , أليس في هذا تدريب علي التواصل الدائم بالله في أيام التربية .

4 – تنافس تربوي

طاقات الانسان المكنونة تريد أن تنطلق , وتعود على صاحبها بكل خير , وبتنوع أنواع الطاعات تنطلق الطاقات وتتحرر القدرات في بيئة جعلها الله مهيئة لمنافسة حقيقية : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) ومعني ( وفي ذلك ) : العمل الصالح والعمل للآخرة والطاعات المنوعة والتشمير للجنة  , وومع افتقادنا اليوم للبيئة التربوية والمناخ التربوي الصالح للمنافسة , فهذا عطاء من الله لنا , وفرصة للتنافس التربوي الخالص في بيئة ربانية تصنع على عين الله ورعايته .

5 – شمول التربية

( العمل الصالح ) كلمة جامعة شاملة , وأثرها التربوي في النفس والمجتمع والحياة والأمة ملموس ومرئي , فهذه العشر تأتي كتدريب مجاني على كسب خبرات تربوية منوعة : من الفهم والاقتناع حتي التبني والممارسة , حيث الانطلاق والسلوك العملي : فهي انسجام وتناغم وتطبيق في البيت مع الزوجات والأزواج والأبناء , كما هي في العمل صلاح وإصلاح وعلاقات وصلات , كما هي مع الأقارب بر وصلة وتقارب ومودة , كما هي مع المجتمع خدمات وتواصل وأخلاق : تحاب وتآخي وتعاون وتسامح وتناصر وتفاهم وتكافل وتكامل , كما هي مع الأمة هم واهتمام ومساندة ومجاهدة , فهل سأل كل منا نفسه بأي شئ استقبلت العشر ؟

مازالت الفرصة مستمرة , فإن كانت الاجابة نعم فالحمد لله الذي أرشدنا إلى كل خير ولنستمر على ما من الله به علينا من طاعات .

وإن لم يكن فمازالت الفرصة أمامنا في السرعة بالتوبة الصادقة , والعزم على اغتنام ما تبقى من بركات هذه الأيام , ولنعلنها حربا على المعاصي التي تأكل كل ما سبق من طاعات , وليكن شعارنا قوله تعالي :

 ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )