حقيقة الربانية
عبد العزيز كحيل
ليس المشروع الإسلامي مشروعا سياسيا عاديا يدخل به ناس عاديون ساحة التنافس لبلوغ سدة الحكم وإحداث تغيير اجتماعي معين إنما هو مشروع حضاري رباني المصدر والوسيلة والغاية لن يستوي على الحياة إلا عبر المنهج التربوي الأصيل الممتد طولا وعرضا وعمقا في النفس والمجتمع،فهو مشروع مستمد من الوحي منسجم في تجسيده مع السنن الكونية والاجتماعية يحمله ربانيون غايتهم القصوى تعبيد الناس لله عز وجل عبر الامتداد الإيماني في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والجمالية،الخ...وآيات الكتاب وأحداث تاريخنا الزاهر تنطق بتلازم الربانية والمنهج التربوي في دورات البعثة المحمدية وأحقاب العزة والعطاء الحضاري،
ما هي الربانية و من هم الربانيون؟
إن الكلمة اشتقاق من الرب وتعني الانتساب إليه والتحلي بأخلاقه '' ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون '' وبهذا ندرك من الوهلة الأولى خطأ قصر هذه الصفة على الجانب الروحي وحده، فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم –وهو الرباني الأول- يعنى في نفسه وفي منهجه التربوي بتزكية النفس فحسب؟ إن إطلاق الربانية على الجانب الروحي إما إطلاق للعام على الخاص -وهو جائز أصوليا- وإما خطأ تصوري يربط التدين بالعواطف وحدها ينجر عنه تذبذب في التأصيل التربوي من أبرز مظاهره اعتبار أزمة المسلمين أزمة أخلاقية فقط أو هي أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى،وهو تشخيص لا يؤيده الواقع وتخالفه دراسات الدعاة والمربيين والعلماء سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات،وهو خطأ يمكن إدراكه ببساطة حين يطرح السؤال:هل الإنسان قلب فقط؟ وأيضا:هل هو قلب بالدرجة الأولى ؟ لقد حمل القرآن الكريم الربانيين مسؤولية الإصلاح الاجتماعي بمحاربة الآفات الفكرية والأخلاقية(الإثم) والظلم بين مكونات المجتمع '' لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ،لبئس ما كانوا يصنعون '' فهل التربية الروحية مؤهل كاف لأداء هذه المهمة؟ إن الرباني هو الإنسان الذي يعيش بالمنهج الإلهي في شخصيته كلها ، والشخصية تتكون - كما هو معلوم- من الأفكار والعواطف والسلوك، فالرباني هو المسلم صاحب العقل الذكي والقلب الحي والجوارح الفعالة.يستطيع بشخصيته المتكاملة تحمل أعباء الخلافة والتصدي لإحداث التغيير والإصلاح ، وأي خلل يعتري مكونات شخصية ينعكس لا محالة على دعوته في صورة خلل في الفهم أو في الإحساس أو في الحركة.
كيف نكون ربانيين؟
إذا كانت الربانية تعني استقامة العقل والقلب والجوارح على النسق الإلهي فإن تكوين الربانيين يتمثل في امتداد المنهج التربوي إلى:
1-الأفكار:بإمداد العقل بتصور متكامل عن الله عز وجل والإنسان والكون والحياة أساسه الوحي وآيات الآفاق والأنفس،وهذه هي الخطوة الأولى في التكوين انطلاقا من أسبقية '' اقرأ باسم ربك '' التي هي أساس التربية الفكرية الأصيلة التي توفر الفهم الصحيح وتجنب التخبط في الفلسفات والأوهام.
2-العواطف:بتزكية النفس من الأمراض ورفع همة القلب وربطه بالله تعالى وتغذيته بالحقائق الأزلية حتى تصبح أحاسيسه وأشواقه وخلجاته تنبض بالرقة والرحمة والقوة والعزة والعبودية وكل المكارم فلا يجافي الطيبات ولا ينهمك فيها ، يتفاعل إيجابيا مع الكون ومع الخلق ويكون له زاد لا يفنى وهو يقطع مسافات الحياة ومراحل الدعوة.
3-السلوك : بإفراغ فعله في الفعل الإلهي باعتباره - أي الرباني - قدر الله عز وجل يفعل الخير وينشد الإصلاح ويقاوم الانحراف عن ناموس الحياة ،وهكذا تتعود الأيدي على البناء والبذل والعين على إبصار نعم الله من أجل الشكر وإبصار العيوب من أجل العلاج ،والأذن على سماع صوت المظلوم ،واللسان على النصح ،والقدم على الحركة البناءة.
بهذا تتزامن التربية الفكرية والروحية والسلوكية لتنشئة ورثة الأنبياء الذين يقتفون أثر الموكب الإيماني المعصوم '' واذكر في الكتاب عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار '' هؤلاء عينة من أنبياء الله الكرام ،امتدحهم الله جل وعلا باعتبارهم أولي أيد (أي أصحاب جوارح نشطة وأيد منتجة فاعلة ) وأولي أبصار (أي أصحاب قلوب وعقول لأن هذه هي مواطن الإدراك ..و لا تقتصر الإشادة على امتلاكهم لها كأعضاء فقط وإنما كأدوات حية نابضة بالنشاط).
مقتضيات الربانية ليس الرباني إذن ذلك العابد الزاهد الذي لاحظ له من علم ولا من عمل وإنما هو كل رجل أو امرأة يعلم ويعمل ويتفاعل مع الأحداث والوجود وفق ما يرضي الله عز وجل، ذلك أن الانسجام مع المنهج الإلهي لا يقوم بالعواطف والانفعالات وحدها ولا بالعقل وحده ولا بالجسد وحده ولهذا فشلت الفلسفات التي تؤسس رؤيتها على واحد من هذه العناصر فحسب ، وهذا يضع اليد على خطأ الفصائل الدعوية التي تنتهج النهج التجزيئي فتنفرد بالتأمل الصوفي أو العمل الفكري،أو التطبيق الجوارحي ،فالشمول هو السمة البارزة للربانية ويتمثل في انسجام العقل المؤمن والإيمان العاقل والعمل المنضبط بهما ، وبهذا فإن الربانية تقتضي بالضرورة توفر خصيتين أساسيتين في المتصف بها هما الإيجابية والفعالية ،فالأولى تقترن بتحرق يناسب الشحنة الإيمانية القوية المترسبة في القلب والرؤية الناصعة في العقل والقلق البنائي في الجوارح بحيث يكون الرباني متوقدا بالنشاط الفكري والروحي والعملي مما يستحيل معه الخمول والانسحابية ،وأما الفعالية فتظهر في حركة الرباني جهدا مضاعفا وتحقيقا لأكبر النتائج وأجودها بتفعيل الوسائل المتاحة ولو كانت بسيطة وهذا ما يقضي على الرداءة والانهزام والذرائعية ،ولنا أن نتصور حال الأمة عندما يتوفر العدد الكافي من الربانيين والربانيات وما يلازمهم من إيجابية كهدهد سليمان عليه السلام ومن فعالية كالذي عنده علم من الكتاب.
فالمنهج التربوي يبدأ بتدارك الخطأ المتمثل في التركيز على الإنسان باعتباره ذاتا عاجزة ضعيفة جاهلة فانية من جهة ومبعثرة متجزئة من جهة أخرى في حين أن الصفات الأولى نسبية بالمقارنة مع صفات الله تعالى التي يجب على المسلم أن يتخلق بها ليتحول إلى مدارج القدرة والقوة والعلم والبقاء فأما الصفات الثانية فهي متناقضة مع حقيقة الشخصية الإسلامية المتسمة بالتوحيد فالربانيون '' في أحسن تقويم '' لأن عقولهم تفكر انطلاقا من الوحي وسنن الوجود ،وقلوبهم تنبض في انسجام مع الحقائق العلوية ،وجوارحهم لا تكف عن الحركة التعبدية الدائبة ،وبالتعايش السلمي بين لقوى الثلاث يكتمل المنهج التربوي وتكتمل شخصية المؤمن ويكتمل المشروع الحضاري البديل لأن التغيير المنشود لن يتم إلا بتعبيد العقول وأفكارها والقلوب ومشاعرها والجوارح وسلوكها لله رب العالمين.