صور من إيذاء النبي في القرآن 10

من المشركين وأهل الكتاب وضعاف الإيمان من المسلمين

المقال العاشر

ومن عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه..

 سورة الحِجر

 [ الآيتان 94، 95 ]

) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ).

الاستهزاء والسخرية :

إن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بدعوة التوحيد.. وكذلك الأنبياء عليهم الصلوات والسلام عليهم أن يبلغوا رسالات ربهم وأن يوضحوها للناس ويخرجوهم- بإذن ربهم- إلى الصراط المستقيم والمحجة البيضاء ليلُها كنهارها..

والأنبياء والمرسلون لا يكلفون بذلك إلَّا حينما يميل الناس إلى الباطل بشهواتهم، ورغباتهم، وينحرفون إلى فساد العقيدة، وفساد التصور، وفساد التصرف فيعيشون خبط َعشواء، لا يدرون لِمَ يعيشون؟ ولِمَ خلقوا؟ وهل يبعثون؟ ولماذا يبعثون؟

 فإذا كانت هذه حالهم فسدَتْ فطرتُهم، وفساد الفطرة أمر خطير يجعل صاحبه يعيش كالبهائم بل أضل.. فالبهائم لاعقل لها تفكر به، ولا نور في قلبها يدفعانها إلى الهداية.. أما الإِنسان إذا فسدت فطرته كان له عقلٌ لا يفكر به، ونورٌ طمس في قلبه، وبصيرة حجبها الران، وطولُ الزمان يصيِّرُه أكثر ضلالاً من البهائم، لأنه أرقى منها مستوى بعقله وقلبه فنزل إلى مستواها بمحض إرادته- وكان يستطيع أن يرتفع- ولئن كانت البهائم مخلوقة هكذا، فلها عذرها، أما هو فقد حفر لنفسه وأساءها فكان أحط منها.

ولأن الكافرين هذه صفاتهم، فإن الرسل وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يصدعون بالتوحيد ويدعون الناس إلى عبادة ربهم يجدون عداوة شديدةً منهم وإيذاءً..وسخريةً واستهزاءً .. وهم يتحملون لأنَّ صاحب الرسالة يعرف سلفاً أن دعوته تجد معارضين من ذوي الأهواء، والمصالح الآنيّة الدنيوية والمفسدين الذين يعيشون متفلتين، لا ضابط يردعهم، ولا مانع يوقفهم، ولا شريعة تضبط تصرفاتهم.. هم يعلمون أن الضياء يتفلت قليلاً من حلكة الظلام، وأن النور يتقدم بطيئاً، لكنهما يثبتان في نفوس الناس بالصبر والحلم والأناة.

 ولكنَّ الرسلَ بشرٌ، لهم عواطفهم وقدراتهم في تحمل سماجة السمجين، وبداوة المكذبين وحِلفَ المتكبرين وسخرية الساخرين وهزء الهازئين.. والله تعالى لايتركهم لبشريتهم وضعفهم بل يقوّى أنفسهم ويشدُّ من أزرهم. ويدافع عنهم : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا..) (1).

 روى القرطبي في الجزء العاشر ص 62 في الجامع لأحكام القرآن عن عبد الله بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أمِر بالجهر خرج هو وأصحابه غير مبالين بالمشركين معرضين عنهم.

 وقال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر، وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنزل الله تعالى ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر..)ُ (2) الآية، والمعنى أنَّ الله كافيك هؤلاء المشركين المستهزئين، وكانوا خمسة من رؤساء أهل مكة ،

وهم الوليد بن المغيرة وهو رأسهم، والعاصُ بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، أهلكهم الله جميعاً قبل يوم بدر في يوم واحد، لاستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم فيما ذكر ابن إسحاق: أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ووجعت عينه فجعل يضرب برأسه الجدار.

 ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار جبريل إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات حَبَناً " بطنه عظمت بالماء الأصفر"

ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله، وكان أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجرُّ سَبَلَهُ (ثوبه المسبل اختيالاً وفخراً) وذلك أنه مرّ برجل من خزاعة يَربش نبلاً له، فعلق سهم من نبله بإزار المغيرة فخدش في رجله ذلك الخدش، وليس بشيء فانتقض به فقتله.

 ومرّ به العاص بن وائل فأشار جبريل إلى أخمص رجله، فخرج على حمار يريد الطائف فربض به على شِبرِقة ( نبت حجازي يؤكل، وله شوك) فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.

ومرّ به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً (سال وخرج) فقتله، وذمَّهم إذ قال تعالى : ) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (1) .

 وقد علم الله تعالى أن الاستهزاء يؤثر في النفس البشرية وأكثر تأثراً به الأنبياء، وأولهم تأثراً سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فيضيق صدره حزناً وألماً بما يقولون من تكذيب وسخرية، فأمره الله تعالى معلماً ومربياً أن يكثر من التسبيح والصلاة، ليذهب همه وحزنه.

( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ) (2) .

 وقد كان رسول الله إذا حزبه أمرٌ نادى على مؤذنه بلال قائلاً : " أرحنا بها يا بلال ". وكان يقول عليه الصلاة والسلام وجعلت قرة عيني في الصلاة.

 فالصلاة قربٌ من الله، وبُعدٌ عن سفساف الحياة الدنيا، ولجوءُ الضعيف إلى الله القوي، واستمدادُ العون منه والمساعدة، إنها رمز العبودية لله، وهي أقصى الدرجات التي يحلم بها العبد المتقرب من مولاه.

من أفعال المستهزئين الساخرين :

 1- تكذيبهم بآيات الله والسخرية بها والاستهزاء بصحتها وصحة مصدرها:

( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون) (1) .

 وجعلوا التندر بآيات الله تسلية وإزجاء لفراغهم.

( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً) (2) .

 2- السخرية من رسول الله وأصحابه والمؤمنين:

 إنها المحاربة النفسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليكف عن دعوته أو يهادنهم، وهيهات هيهات، فالمؤمنُ بقضيةٍ عَشِقَها، وامتزجت بقلبه، وخالطت جسمه، لا يترك دعوته، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ،ولو ملّكوه الأرض وما عليها وأغرقوه بالأموال والشهوات.

( وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً( (3) .

 وما من نبي أرسل إلى الكافرين إلًّا استهزؤوا به، فهذا دأبهم منذ القديم ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (1) .

3- الاستهزاء والسخرية من الصلاة وأصحابها:

 فهم يشيرون إلى المصلين إشارة تدل على قذارة أنفسهم، وخبث مكرهم (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِبا )ً (2) ، وهذه الآية وإن كانت في المنافقين فالمنافقون كفّارٌ

يصرحون أنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم مع الكافرين، فهم في خندق واحد ضد المسلمين ( قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (3) .

وليندمَنَّ الساخرون يوم القيامة حين يرون العذاب على ما فعلوه وما فرَّطوا في جنب الله وليقولُن نادمين حيث لا ينفع الندم، آسفين حين لا ينفع الأسف.

 ( يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين )َ (4) .

 وسيندمون حين يُحيط بهم العذاب، ويعرفون تمام المعرفة، ويتيقنون تمام اليقين أنهم ماكثون في العذاب الأليم ( وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (1) .

 (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) (2) .

ولكن ما بال الذين يرون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم يسخرون من الدين وأهله، ويصفونه بالرجعية، والبعد عن الحقيقة المعيشية، والحقيقة العلمية؟!! ويتقولون على الله الأقاويل، ويسخرون من المؤمنين، فيصفونهم تارة بالتطرف، -ولا متطرف إلَّا من ابتعد عن شرع الله وتطرف عنه- وتارة بالأصولية، ويقصدون التجمد عند النصوص والفهم الخاطىء لها، والأصولية حقيقةً عودة إلى كتاب الله وسنة نبيه، والتزامٌ بالشرع وعملٌ به، فهي إذاً صفة يتمنى جميع المسلمين الواعين أن يتصفوا بها، ما بال هؤلاء المسلمين يتخذون من هؤلاء الذين سخروا منهم ومن دينهم، من أهل الكتاب، والمشركين أولياء.. يتولونهم؟!! ألم يعلموا أن الله نهاهم عن ذلك، فالمسلم متميز عنهم؟!! إن الله يناديهم معلماً ومربياً، ومحذراً ؟!

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (1) .

بل أمَرَنا مولانا سبحانه أنْ إذا سمعْنا الكفارَ يستهزئون بالدين وشعائره وأهله، أن نسخر منهم ثم لا نجالسهم فليسوا منا ولسنا منهم. فكما أن الله يستهزىء منهم ويسخر، ( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون )َ (2) فنحن نسخر منهم ونهزأ، فالرد بمثل الهجوم وأكثر منه أولى بالمؤمنين ( إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ) (3) .

 وأما أعظم التعبير عن المفاصلة بيننا وبين الكافرين، فقد وضَّح الله تعالى هذه المفاصلة أبْيَنَ الوضوح، فأمر المسلمين أن لا يجالسوهم لأنهم يكونون إذ ذاك مثلهم، وإذا حلت اللعنة عليهم والمسلمون بينهم ساكتون، خرس لا يمتعضون ولا يردون، وكأنهم غير موجودين، فقد تحلُ بهم. ومن كثَّر سوادَ قوم فهو منهم..!!

 ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (1)

هكذا إذاً!! المفاصلة.. ولا يقصد بالمفاصلة عدم التعامل معهم تجاريّاً وعلميّاً.. فلا بد من ذلك فهي الحياة الدنيا تجمع بين الأطراف.. ولكنها المفاصلة في الروح والعقل، المفاصلة في الحب والود، والبغض والكُره، المفاصلة في المعتقد والإيمان، المفاصلة في الأمن والأمان.. فهم أعداء الله ونحن أحباؤه.. ولا اجتماع بين نقيضين..

(1) سورة الحج : الآية 38.

(2) سورة الحجر: الآية 94.

(1) سورة الحجر: الآية 96.

(2) سورة الحجر: الآيتان 97، 98.

(1) سورة الروم: الآية 10.

(2) سورة الكهف: الآية 56.

(3) سورة الفرقان: الآية 41.

(1) سورة يس : الآية 30.

(2) سورة المائدة : الآية 58.

(3) سورة البقرة : الآية 14.

(4) سورة الزمر: الآية 56.

(1) سورة النحل: الآية 34.

(2) سورة الأنبياء: الآية 41.

(1) سورة المائدة : الآية 57.

(2) سورة البقرة : الآية 15.

(3) سورة هود : الآية 38.

(1) سورة النساء: الآية 140.

وسوم: العدد 627