إذا أراد الله (عزَّ وجلَّ) بعبدٍ خيرًا عسَّله
في قمة الاستضعاف وذروة الاستذلال وأقصى حدود القهر للقلة المؤمنة من سدنة الكفر وعتاة الإلحاد.. جاءت الهجرة المباركة.. ذلك الحدث الذي لم يكن مجرد رحلة من مكان إلى مكان.. بل من فكرة إلى واقع.. ومن مبادئ ترسخت في النفوس الصامدة إلى حركة حياة غيَّرت العالم، وجعلت من دولة المدينة ودستورها نموذجًا للعدل والحرية.
لقد حمل لواء استنقاذ البشرية من المظالم والمفاسد قلة ربَّتها العقيدة الصافية، وارتوت من معين الإيمان النقي، وصارت بأخلاقها ومعاملاتها قدواتٍ حيةً تجتذب وتستقطب الأعداء قبل الحلفاء والخصوم قبل الأنصار!
ولم تكن المسافة التي قطعتها تلك القلة من الاستضعاف إلى سيادة العالم قصيرة أو ممهدة، لا بالمعايير الزمنية ولا بمقاييس التجارب والأحداث، بل كانت مسافة عميقة ممتدة محتشدة بالابتلاءات والصعوبات والعثرات.
تلك المسافة – على وضوحها وتجذُّرها في سجل التاريخ الإنساني – يعمى عنها من تتقاطع مصالحهم المشبوهة مع المبادئ والقيم التي تسعى القلةُ الربَّانيةُ إلى مد ظلالها الوارفة على الإنسانية كلها.. ومع ذلك العمى يكرر هؤلاء أخطاءهم القاتلة، ولا يتوبون عن ممارساتهم التي تسفر عن رسوخ أقدام دعاة الإصلاح على الأرض، وإعطاء فكرتهم مزيدًا من المصداقية والرواج فتخدمهم من حيث لا يتعمد أصحابها .. وتحسن إليهم – بتدبير الله وكيده – بينما كان المقصد منها الإساءة والتنكيل!
إنها سُنَّةُ صراع كونية دائمة.. لا تتخلف وإن اختلفت تفاصيلها، وتلك حقيقة يعيها المصلحون، ويستدعونها في منعطفات الاضطهاد والتآمر والإقصاء، ويوقنون بأن في نهاية النفق ضوءًا ساطعًا ونصرًا مبينًا.
الداعية الراحل د. علي عبد الحليم محمود قال لي قبل رحيله بأسابيع : "إن المرحلة التي يمر بها الوطن حرجة ودقيقة؛ تحتاج إلى استنهاض الهمم والجهود، وأن يكون العطاء بلا حدود؛ ما يجعل العبء ضخمًا وثقيلاً؛ يتطلب كل معاني الإيجابية والذاتية والجدية وقهر الأعذار، ومضاعفة النشاط؛ إذ ما نحمله من حق يبرأ من كل حرٍّ لا يعمل إلا بتكليف". وهذا ما نبَّه إليه الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) من قبل؛ فقد أُثِرَ عنه قولُه: "لا تلعنوا الظلام؛ ولكن ليضِيء كلٌّ منكم شمعة في نفسه وبيته، ولا تلعنوا الواقع؛ ولكن سارعوا إلى تغييره، ولا تتذرعوا بالمرحلة؛ فَرَبُّ المرحلة أعلمُ بطبيعتها منكم". وأضاف (رحمه الله): "آيةُ ذلك في غزوة أُحد؛ فقد انفصل ابن سلول بالمنافقين، ما يقدَّر بثلث الجيش، وهو عدد ضخم إذا ما قارنته بعدد الجيش، ورغم ذلك لم يُحْرَمْ المسلمون النَّصر: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ... }، وإنما العقوبة من أجل هذا العُشْر الذي عصى أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم): { ...ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ... }؛ إذ نُؤْتى من قِبَل ضعف التربية، فيكون الجنود أدنى من المستوى المطلوب ولو كانوا قلة". لذا؛ لا غرابةَ أن نجد الصحابة في حمراء الأسد، وقد أثخنتهم الجراحُ، وفقدوا الظَّهر في أُحد منذ سويعات، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، حتى كان الأخف جرحًا يحمل أخاه الأثقل إصابةً. وهذا سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) يتصدى بمفرده للقوم في غزوة (ذي قرد)، حتى اضطرهم إلى الفرار تاركين ما استلبوا من عير رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وظل يناوشهم وقد نزلوا على ماء، ليطفئوا ظمأ حلوقهم، فما استطاعوا أن يهنئوا بقطرة منه. وبمثل هؤلاء يُصنع التغيير المراد، وإن الذي يعزم على الكفاح سيجد أمامه عشرات الأبواب المفتوحة، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وإنه غير مطلوب منه أن يكون مقدامًا لم يسبق له مثيل، ولكن عليه أن يتصرف وفق الواجب وقدراته الخاصة. لقد كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) أشدَّ حرصًا على أن يكون لكل مسلم عطاءٌ في سبيل الله، فإذا عاد (صلى الله عليه وسلم) مريضًا دعا له: "اللَّهم اشفِ عبدَك؛ يشهدْ لكَ صلاةً، وينكأْ لكَ عدوًّا". والخلاصة؛ إذا ما جاءتك فرصة فلا تتخلف، ولا تستمع لوساوس الشيطان، وردد في نفسك – أبدًا - قول الصدِّيق (رضي الله عنه): "أيسقط الدِّين وأنا حيٌّ؟".
واحذر قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لا يزال الرجل يتأخر حتى يُؤخره الله"، واطمح لوعده (صلى الله عليه وسلم): "إذا أراد الله (عزَّ وجلَّ) بعبدٍ خيرًا عسَّله"، قيل: وما عسَّله؟ قال: "يفتحُ الله (عزَّ وجلَّ) له عملًا صالحًا قبل موته، ثم يقبُضه عليه" [رواه الإمام أحمد، والترمذي].
وسوم: 636