طلع البدر علينا .....

يوم توقّف عنده الزمان ... ألغى عمره السابق وبدأ يعد لسنوات عمر جديد .. زمن أخضر تمتد خمائله امتداد  الشفق إلى حيث يبلغ صدى صوت الأذان  وإلى حيث تورق حروف القرآن سعادة وسلاما وأحلاما وعدالة ...إلى حيث يندحر الشيطان وينطلق الإنسان حرا لا أغلال تكبل روحه ولا قيود ولا حدود  في فضاء العبودية  لله الخالق العظيم.

إنها شجرة " إقرأ  "استوى عودها وأورق غصنها وآن لثمارها اليانعة أن تتدلى وينتفع بها عباد الله فوجب السفر بها إلى بلاد ليس بين عيونهم وبين نعمة الإبصار حائل من كبر أو جهالة أو تسويل شيطان لقد ضاقت خفافيش مكة  ذرعا بضياء انبعث من غار حراء فكان لا بد من أن يشق النور طريقه من مكان لآخر حُجُبُ الجاهلية فيه أقل سماكة فكانت يثرب هي المطلع الجديد لنور سيضيء الخافقين.

إنه قدر الضياء أن يبقى مهاجرا لا تحجزه حواجز ولا تسد طريقه السدود... يحارب الظلم والظلام وينشر الهداية والسلام ما بقيت هناك حياة وما استمرت في الكون أفلاك تدور

لقد طلعت أنوار الرسول وآن لكل بصيص دونها أن ينطفئ ويزول ويعتريه الأفول

يهاجر القائد أخيرا بعد إذ اطمئن أن أصحابه وصلوا سالمين وبعد أن اطمئن إلى طريقة تؤدى بها الأمانات إلى أهلهاالذين ساموه سوء العذاب وتركوه طريدا بثيابه التي عليه في فجاج الأرض  لا يلوي على شيء .. إنه قدر أصحاب الرسالات أن تضيق بهم حدود المكان فيندفعون في الأنحاء والبلدان هربا بالشعلة أن تطفئها حماقة فرعون أو تحرق حاملها نيران نمرود......هي هجرة في الله ولله وليست تكثرا من الدنيا ولا تفسحا في أرجائها ولا سياحة ...

يلتفت الأمين  مع صاحبه إلى البلد التي عرفته بهذا الاسم  مودعا  وطنا فيه مسقط رأس روحه قبل جسده ليقول“والله إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت “ لقد تسلل مع صديقه حاملا بين جنبيه أمانة هي أعظم من الأمانة التي عرفته بها مكة بكثير إنها الأمانة التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها ... هي ليست قوته لوحده صلى الله عليه وسلم إنما هي قوة الأزل والأبد وقوة الإيمان بالله التي تصنع المستحيل وتجعل من خيوط العنكبوت درعا لا يخترق وحاجزا تزيغ عنه الأبصار... ومن الأرض ذلك الجرم الجبار شيئا يهتز تحت حوافر فرس فارس فرسان بني مدلج .... تملآن ضرع عجفاء أم معبد بالخير وهي الحائل التي لمتكن تبض بقطرة لبن...

..........

ويطول الزمن بالموكب الذي يسير بعناية الله يرسم ملامح طريق السائرين الله إلى قيام الساعة .... أوله عنت ومحاربة وحصار وأوسطه كدح وعمل وتضحيات وآخره جنة عرضها الأراضين والسماوات

وعلى أبواب يثرب بعد أن طال بالمؤمنين الانتظار ......

ناقة تمشي على أطراف الخيال  .... تطلّ من ثنيات الوداع تحمل بدر مكة ...بدر يثرب بل بدر جزيرة العرب والعالم_ألم ينشق بدر السماء بإشارة من بدر الأرض -"رسول الله -! ؟...تنطلق الحناجر في أنشودة لا أبسط من كلماتهاولا أروع .... حداء يبقى خالدا ما دامت السماء والأرض على إيقاع وقع خطوات القصواء ترقص له القلوبوالأرواح فتنداح في الكون   أطياف الفرح "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع.." يقترب الموكب المبارك من المدينةالتي ستصبح مباركة بما ضربت من موعد مع البدر يقيم فيها فتبقى تضيء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها...

 أي مضيف يمكن أن يرقى لمستوى إكرام ضيف بهذا  الجلال والقدر !؟... الكل ينتظر حرفا .. إشارة... إيماءةقبول... يتسابقون إلى خطام الناقة...!

استسلام لله وتفويض الأمر لصاحبه بعد الأخذ بالأسباب يديرها كيف تشاء ..... هي أول صفات السالكين لهذا الطريق..

_ "دعوها فإنها مأمورة"...

تمتلأ النفوس بالهيبة... الرهبة ... الخشوع ..أحاسيس لا يمكن تحديدها ....ضيف ليس كأي ضيف ... موكب ليسكأي موكب حتى الناقة ليست كأية ناقة ..إنها مأمورة !... من الذي أمرها!؟ إذاً هي تعرف ما لا يعرفه أحد ... تنظرذات اليمين وذات الشمال   تتفحص الأماكن والوجوه فتسري في النفوس قشعريرة ...تشرئب الأعناق ..تتوسعالأحداق ترتبط الأبصار بحركة رأس الناقة ومواضع نظرها... ينقطع حتى الهمس فلا يبقى إلا وقع أقدام الناقة يقرعالأرض قرعا فتتراقص المشاعر.. القلوب بل يرقص الكون ويصفق من البهجة وهو يراها تنكس رأسها واضعةالرحال أمام بيت أبي أيوب الأنصاري....

ويبدأ عهد العمل بعد أن كانت قد انتهت فترة الإعداد ... إنتاج ولا مثله .. ثمار ولا أروع ولا أينع...وتنطلق مسيرة البناء اللبنة فوق اللبنة والجدار تلو الجدار حتى يعلو للهداية أعلى صرح وحتى يكون للضياء أي جيش ينطلق في فجاج الأرض يدك صروح الظلام بعد أن تزول غمامة الشرك عن بيت الله العتيق يوم تصدح في أرجاء مكة أصوات التكبير في حداء خالد وحديث عذب خالد يهتز له كيان المعاندين فيخروا لله ساجدين " اذهبوا فأنتم الطلقاء" ويتوالى الفتح  ويبلغ شعاع الصبح العالمين.........

وسوم: 639